للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البطين. وما لبث أن قال: إنه يقسم طعامه بينه وبين الفقراء أو بعبارة أدق يقسم جسمه فى جسومهم، بل كثيرا ما يؤثرهم على نفسه بكل طعامه مع جوعه ومسغبته مكتفيا بشرب الماء البارد، على حين يعصف الشتاء بزمهريره. والذى لا ريب فيه أنه طمح إلى مثل نبيل فى البرّ والإيثار ودفع غوائل البؤس والشقاء عن البؤساء والضعفاء. ونحن نقف عند قصيدة أنشدها له الأصمعى فى أصمعياته (١)، وهى بذلك من أوثق شعره وأصدقه. وهو يستهلها بتوجيه الخطاب إلى امرأته سلمى التى تلومه على كثرة مخاطراته ومغامراته فى الغزوات والغارات، وقد ردّ عليها بأنه يبغى حسن الأحدوثة وبقاءها، وأنه إنما يرمى بنفسه فى المهالك من أجلها، حتى يغنيها، وحتى لا تشعر بالحاجة من بعده أو بالذل والهوان، وهى تماريه شفقة عليه:

تقول: لك الويلات هل أنت تارك ... ضبوءا برجل تارة وبمنسر (٢)

فهى تقول له إنك لن تنتهى عن غاراتك بالصعاليك من الراجلين تارة ومن الفرسان تارة ثانية، وحرى بك أن تكف عن ذلك، حتى لا تلقى حتفك.

ويرد عليها:

أبى الخفض من يغشاك من ذى قرابة ... ومن كلّ سوداء المعاصم تعترى (٣)

ومستهنئ، زيد أبوه، فلا أرى ... له مدفعا، فاقنى حياءك واصبرى (٤)

فهو لا يستطيع القعود عن الغزو كما تريد زوجه، لما عليه من واجبات وحقوق لأقربائه المحتاجين من قبيلته، ونسائها المعوزات، والعفاة، طلاّب العطاء من الضعفاء، فهو إنما يغزو من أجل الوفاء بحقوق هؤلاء جميعا. ويعرض عليها صورتين للصعلوك، صورة رديئة، وصورة جيدة، أما الصورة الأولى ففيها يتراءى الصعلوك خاملا، حسبه أن ينال أكلة من فتات مائدة، لا يهمه أهله ولا عياله


(١) الأصمعيات (طبع دار المعارف) ص ٣٥.
(٢) ضبوء: غزو. رجل: جمع راجل ضد راكب. المنسر كمجلس ومنبر: الجماعة من الخيل بين الثلاثين والأربعين.
(٣) الخفض: الدعة ولين العيش. ويريد بسوداء المعاصم التى أجهدها الجوع والهزال. تعترى: تغشى.
(٤) مستهنئ: طالب للهنء وهو العطاء، وزيد من أجداد عروة يريد أنه قريبه. اقنى حياءك: صونيه واحفظيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>