للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لغارته من عرفوا بالشح والبخل ومن لا يمدون يد العون للمحتاج فى قبائلهم، فلا يرعون ضعفا ولا قرابة ولا حقّا من حقوق أقوامهم (١). وبذلك كله تصبح الصعلكة عنده ضربا من ضروب النبل الخلقى، وكأنها أصبحت صنوا للفروسية، بل لعلها تتقدمها فى هذه الناحية من التضامن الاجتماعى بين الصعلوك والمعوزين فى قبيلته. وبلغ عروة من ذلك أنه كان لا يؤثر نفسه بشئ على من يرعاهم من صعاليكه، فلهم مثل حظه غزوا معه أو قعد بهم المرض والضعف. وهو يضرب بذلك مثلا رفيعا فى الرحمة والشفقة والبذل والإيثار.

ولعروة ديوان برواية ابن السكيت، طبع مرارا، فى جوتنجن والجزائر والقاهرة وبيروت، وتردّد أشعاره فيه هذه المعانى الكريمة التى قدمناها، وهى معان جعلت معاصريه ومن جاءوا بعدهم يعجبون به إعجابا شديدا، فقد كانت قبيلته تأتم به فى خلاله وخصاله، وكان معاوية يقول: «لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم (٢)» أما عبد الملك بن مروان فكان يقول: «من زعم أن حاتما أسمع الناس فقد ظلم عروة بن الورد» (٣) وكان يقول أيضا: «ما يسرّنى أن أحدا من العرب ولدنى ممن لم يلدنى إلا عروة بن الورد لقوله:

إنى امرؤ عافى إنائى شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد (٤)

أتهزأ منى إن سمنت وأن ترى ... بجسمى شحوب الحق، والحقّ جاهد

أفرّق جسمى فى جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء، والماء بارد (٥)

وعروة يعبر عن معنى إنسانى رفيع، إذ تعرّض له بعض أصحابه يعيبه بأنه مضنئ هزيل شاحب اللون، فقال له: إننى يشركنى كثيرون من العفاة والسائلين ذوى الحاجة فى إنائى أو طعامى، أما أنت فلا يشركك أحد، ولذلك سمنت أما أنا فأصبحت ضامرا نحيلا، وما شحوب وجهى إلا أثر من آثار نهوضى بحقوق هؤلاء المحتاجين والمعوزين، فلست أنا الخليف بالهزؤ والسخرية، إنما الخليق بذلك السمين


(١) أغانى ٣/ ٨١.
(٢) أغانى ٣/ ٧٣.
(٣) أغانى ٣/ ٧٤.
(٤) العافى: طالب المعروف. ويريد بقوله: عافى إنائك واحد أنه يأكل وحده.
(٥) حسا الماء: شربه شيئا بعد شئ. القراح: الخالص الذى لا يخالطه لبن ولا غيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>