للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقاد فيها المعتصم منذ أصبح أميرا لها فى الثامنة عشرة من عمره سنة ٤٤٣ حركة علمية وأدبية كبيرة طوال مدة حكمه التى امتدت إلى أكثر من أربعين عاما، وكان يخصص يوما فى كل أسبوع لمناظرة الفقهاء والمحدثين بين يديه، ولزم حضرته كثيرون من الشعراء، منهم من المرية يوسف بن عبد الصمد وأبو حفص بن الشهيد ومن غيرها الأسعد بن بلّيطة الطليطلى والقزاز محمد بن عبادة الإلبيرى المترجم له بين الوشاحين ويوسف بن محمد الأشكركى ومنهم-كما أسلفنا-شاعرنا ابن الحداد الذى عاش عنده أكثر حياته مما جعله يستنفد أكثر أشعاره ومدائحه فيه من مثل قوله فى إحدى مدائحه:

ولولا أبو يحيى ابن معن محمد ... لما كانت الأيام عندى ذخائرا

يحجّ ذراه الدهر عاف وخائف ... جموعا كما وافى الحجيج المشاعرا (١)

فزر مكّة مهما اقترفت مآثما ... وزر أفقه مهما شكوت مفاقرا (٢)

تهيم بمرآه العصور جلالة ... وتحسد أولاها عليه الأواخرا

والصورة فى البيت الثانى رائعة، وكان يعرف كيف ينفذ إلى طرائف الصور والأخيلة البديعة، كقوله فى مدحة أخرى للمعتصم، استهلها بالمزج بين الطبيعة والغزل على مألوف المدائح عند الأندلسيين ولم يلبث أن خرج من وصف نهر إلى المديح منشدا.

ويا لك من نهر صئول مجلجل ... كأن الثّرى مزن به دائم الرّعد (٣)

كأن يد الملك ابن معن محمّد ... تفجّره من منبع الجود والرّفد (٤)

فمن جوده ما فى الغمامة من حيا ... ومن نوره ما فى الغزالة من وقد (٥)

ومنك أخذنا القول فيك جلالة ... وما طاب ماء الورد إلا من الورد

وقرن جلجلة ماء النهر فى حصباء الثرى بصلصلة الرعد الدائم فى السحاب الممطر فى منتهى الروعة، ومن نفس الطراز الصور فى البيتين الثالث والرابع.

ويبدو أن أخا له اقترف ذنبا اضطر المعتصم إلى اعتقاله سنة ٤٦١ وأحس الشاعر بشئ من سخط المعتصم عليه، فغادر المرية موليا وجهه إلى المقتدر بن هود (٤٣٨ - ٤٧٤ هـ‍.) بسرقسطة، وكان شاعرا يقدر الشعر وأهله كما كان بطلا مجاهدا


(١) ذراه: حماه وكنفه عاف: طالب معروف.
(٢) مفاقر: وجوه فقر.
(٣) صئول: شديد الهياج. المزن: السحاب الممطر.
(٤) الرفد: العطاء.
(٥) الحيا: الغيث والمطر. والغزالة: الشمس.

<<  <  ج: ص:  >  >>