للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ناضجة، وقد تمثل فيها دعوة ابن تومرت مهدىّ الموحدين وإمامهم ونهوض عبد المؤمن بها من بعده كأنها نار شبّت فى جانب جبل الفتح كالنار التى جاء فى القرآن الكريم أنها شبت لموسى من جانب الطور الأيمن بسيناء {فَقالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وتمثّل الرصافى الآيات الكريمة ومضى ينشد عبد المؤمن مفتتحا قصيدته بقوله:

لو جئت نار الهدى من جانب الطّور ... قبست ما شئت من علم ومن نور

فيضيّة القدح من نور النّبوة أو ... نور الهداية تجلو ظلمة الزّور

ما زال يقضمها التّقوى بموقدها ... صوّام هاجرة قوّام ديجور (١)

نور طوى الله زند الكون منه على ... سقط إلى زمن المهدىّ مذخور (٢)

حتى أضاءت من الإيمان عن قبس ... قد كان تحت رماد الكفر مكفور (٣)

ويشيد الرصافى بعبد المؤمن وما يحمل من دعوة المهدى إمام الموحدين ابن تومرت وأضوائها التى طبّقت البلاد المغربية والأندلسية، ويصف عبور عبد المؤمن الزقاق على سفن تتهادى بين أيدى مجاذفها وكأنها تغرق فى ماء الورد الأرجوانى الصافى، وتسرع خائضة التيارات فى الزّقاق فيخال كأنها تطير بأجنحة النور الكاسرة. ويبدع الرصافى فى تصويره لجبل طارق الشامخ الصاعد فى عنان السماء بذراه حتى لتتوج النجوم مفرقه بأكاليلها المتألقة. ويقول إن الجبل مقيّد الخطو غير أنه جوّال الخواطر يواصل الصمت والتفكير فيما جاء بالذكر الحكيم عن يوم القيامة وتسيير الجبال ودكها دكّا، ويطمئنه على غده فقد زاره عبد المؤمن. ويعود إلى الإشادة به وبهدى دعوته وبسالة جيشه، وينهى القصيدة بتمثله فى جبل طارق والمهدى ابن تومرت وخليفته عبد المؤمن جبل الطور وموسى وفتاه يوشع قامع الجبابرة الذى تأخرت له الشمس عن مغربها، وكأن عبد المؤمن يوشع جديد.

والقصيدة رائعة بل أكثر من رائعة وانتظر الشاب الرصافى أن يقدرها عبد المؤمن


(١) يقضمها: يطعمها. الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر. الديجور: الظلمة.
(٢) الزند: الحجر الأعلى الذى تقدح به النار. السقط: شرر النار. مذخور: مخبوء.
(٣) مكفور: محجوب مستور.

<<  <  ج: ص:  >  >>