للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحاشيته حق قدرها فيعلن أنه الشاعر الرسمى للموحدين أو يسبغ عليه ولاية صغيرة أو جاها، وفوجئ بأن عومل معاملة غيره من الشعراء الكثيرين الذين زفّوا إلى عبد المؤمن مدائحهم، فكوفئ مثلهم على قصيدته بدنانير معدودات، وتحسّر على شعره وعلى نفسه وموهبته، ورجع إلى مالقة مصمما أن يهجر صنعة المديح إلى الأبد مكتفيا بصنعة رفو الملابس. وسكن غرناطة وقتا وانعقدت صداقة بينه وبين شاعرها أبى جعفر بن سعيد، ويبدو أنه ألحّ عليه فى امتداح أخيه محمد فامتدحه بقصيدة عادية، كأنه نظمها مجاملة لأبى جعفر. وفى بعض أشعاره ما يدل على أنه زار مكناسة والمسيلة فى المغرب، وعاد ثانية إلى مالقة وهو مصر على أن لا يمدح أحدا، وراجعه بعض الشعراء فى ذلك وألح عليه، فكتب إليه يراجعه:

يقول أناس لو رفعت قصيدة ... لأدركت حتما فى الزمان بها أمرا

ومن دون هذا غيرة جاهليّة ... وإن هى لم تلزم فقد تلزم الحرّا

وهى ليست غيرة جاهلية، بل هى غيرة شعرية، غيرة الشاعر الحر على شعره وفنه أن يسخره فى تملق الحاكم وأن لا يكون نصيبه من ذلك إلا أجرا زهيدا تأباه النفوس الحرة الكريمة. وكان ممن عرف قدره وروعة شعره أبو جعفر الوقّشى الشاعر وزير ابن همشك صهر محمد بن سعد بن مردنيش الثائر على الموحدين بمرسية وشرقى الأندلس (٥٤٢ - ٥٦٧ هـ‍.) فأخذ يرسل إليه بهدايا نفيسة، ولم ير الرصافى بدا من أن يشكره، ووالى الوقّشى هداياه فشكره بقصيدة بديعة، وفيها يقول:

رجل إذا عرض الرجال له ... كثر العديد وأعوز النّدّ (١)

من معشر نجم العلاء بهم ... زهر كما يتناسق العقد (٢)

وكأنما فاق الأنام بهم ... نسب إلى القمرين ممتدّ

فيرى وليدهم المنام على ... غير المجرّة أنه سهد

هيهات يذهب عنك موضعه ... هطل الغمام وجلجل الرّعد

وظل الرصافى بمالقة قانعا. بصناعة الرفو وما يكسبه منها بعرق جبينه، وهو مع ذلك ينظم الشعر لا فى المديح ولكن فى الطبيعة وفى بعض مجالس اللهو والخمر مع بعض رفاقه وأصدقائه محرّما على نفسه أن ينتجع أحدا بقصيدة أو يبتذل شعره بمدحة حاكم


(١) الند: النظير.
(٢) نجم: نشأ. زهر جمع أزهر: النجم والكوكب الساطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>