للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا استمررنا فى تتبع الشعر التاريخى التعليمى وأراجيزه التقينا بأرجوزة (١) ابن عبد ربه التى سجّل فيها انتصارات عبد الرحمن الناصر من سنة ٣٠٠ إلى سنة ٣٢٢ موزعا لأبياته فيها على تلك السنوات وهى فى نحو ٤٥٠ بيتا، وقد استهلها بقوله:

سبحان من لم تحوه أقطار ... ولم تكن تدركه الأبصار

ومن عنت لوجهه الوجوه ... فما له ندّ ولا شبيه

ومضى يصف الله ببعض صفاته القدسية حامدا له على آلائه التى أسبغها على الأندلس، ويشيد بعبد الرحمن الناصر وانتصاراته الباهرة وجمعه لعقد الأندلس بعد أن كانت حبّاته قد تناثرت وعمّت الفتن فى كل الأنحاء وكثر الثوار فى كل مكان، وإذا عبد الرحمن بغزواته المتوالية سنويا يعيد إلى الأندلس وحدتها ويقضى قضاء مبرما على الثوار والمرّاق ويأخذ فى منازلة نصارى الشمال حتى يلقوا له عن يد وهم صاغرون، ونكتفى من أرجوزة ابن عبد ربه بالوقوف عند غزوة (٢) السنة الأولى من غزوات الناصر وهى سنة ثلاثمائة، وكان قد أعدّ جيشا ضخما خرج به من قرطبة فى السابع من شهر رمضان فى تلك السنة، وبدأ بثوار كورة جيّان واتجه إلى حصن المنتلون وثائره سعيد بن هذيل ونازله واستسلم ولاذ بالأمان، ورحل إلى حصن شمنتان وثائره عبيد الله بن الشاليه، فبادر بالاستسلام متنازلا له عن جميع معاقله وحصونه وكانت تقارب المائة، ورحل إلى الحصون التى كانت موالية لعمر بن حفصون فى جيّان ثم فى البشرّات وافتتحها جميعا، ثم تقدم إلى ما كان بيد ابن حفصون فى إقليم إلبيرة من الحصون فافتتح أكثرها ولم يدع فيها مخالفا. ورأى أن يريح جيشه وكان قد فتح سبعين حصنا من أمهات الحصون سوى حصون وبروج ومعاقل تبلغ نحو الثلاثمائة، وهى فتوح لم يسمع بمثلها- كما يقول ابن حيان-لملك واحد من ملوك الأرض فى غزوة واحدة، وقفل منها عائدا إلى عاصمته قرطبة بعد ثلاثة أشهر وأيام، وفيها يقول ابن عبد ربه فى أرجوزته مشيدا بالناصر وما أذاق الثائرين من بأسه واستسلامهم له صاغرين خانعين:

وجمّع العدّة والعديدا ... وكثّف الأجناد والحشودا

ثم انتحى جيّان فى غزاته ... بعسكر يسعر من حماته (٣)


(١) انظر الأرجوزة فى العقد الفريد ٤/ ٥٠٠ وما بعدها.
(٢) راجع هذه الغزوة فى الجزء الخامس من المقتبس ص ٥٨ وما بعدها.
(٣) يسعر: يتقد. حماة: جمع حام.

<<  <  ج: ص:  >  >>