للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثيابهن ونظرت إلى صاحبة لها من بينهن كانت تهواها، وألقين بأنفسهن فى النهر سابحات متلاعبات قالت فى محبوبتها:

أباح الدّمع أسرارى بوادى ... له فى الحسن آثار بوادى (١)

فمن نهر يطوف بكلّ روض ... ومن روض يرفّ بكل وادى

ومن بين الظباء مهاة إنس ... لها لبّى وقد سلبت فؤادى (٢)

لها لحظ ترقّده لأمر ... وذاك الأمر يمنعنى رقادى

إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر فى جنح الدآدى (٣)

كأنّ البدر مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالسّواد

والأبيات بالغة الروعة، وبدون ريب كانت صاحبتها فى منتهى الفتنة والحسن والجمال، وكانت السباحة فى النهر والأشجار مصطفة من حوله متحلية بالورود عبقة بالرياحين، وصاحبتها التى خلبت لبها تلعب معها ومع صواحبهما فى المياه، ولطالما سهرت الليالى تفكر فى سحر عينيها، وها هى تسدل أحيانا ضفائرها على جوانب من وجهها، ويطل وجهها من خلالها، وكأنما ترى قمرا يطل فى جنح الليالى الحالكة أو كأنما مات له شقيق فهو يلبس السواد عليه. وتقول أختها زينب (٤):

ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندى وعندك من ثار

وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّ حماتى عند ذاك وأنصارى

غزوتهم من مقلتيك وأدمعى ... ومن نفسى بالسّيف والماء والنار

وواضح ما فى البيت الأخير من تشبيه للمقلة والدموع والنفس الحار على الترتيب بالسيف والسيل والنار، وهى مقابلة بديعة، ويسمى البلاغيون هذا الصنيع باسم اللف والنشر، وهو كثير فى الشعر العربى من قديم، ومنه أمثلة كثيرة فى الشعر الأندلسى قبل زينب.

وتظل سيول هذا الغزل الرائع تتدفق من كل بلدة أو مدينة أندلسية فى عصر الموحدين، ويلقانا فى صدره محمد بن عياض صاحب المقامة العياضية، وهى مقامة غزلية،


(١) بوادى الأخيرة: ظاهرة.
(٢) المهاة: بقرة الوحش واسعة العينين.
(٣) الدآدى: الليالى الأخيرة فى الشهر القمرى. وهى حالكة السواد. جنح الليل: ظلامه.
(٤) نفح ٣/ ٢٠٨ وفى المغرب أن الأبيات لأختها حمدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>