للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الغزلين قبلهم وأخيلتهم، على نحو ما سنرى فى الكلمة التى سنسوقها للحديث عن ابن خاتمة وغزله. ويشيد ابن الخطيب بما فى قصيدة لابن جزىّ من وجد قائلا إنها من الغراميات التى سلك فيها مسلك مجنون ليلى، وربما كان أجمل ما فيها قوله: (١)

تباعدت لما زادنى القرب لوعة ... لعل فؤادى من جواه يفيق

ولا سلوة ترجى ولا الصبر ممكن ... وليس إلى وصل الحبيب طريق

شجون يضيق الصّدر عن زفراتها ... وشوق نطاق الصبر عنه يضيق

فيا غائبا عن ناظرىّ أما يرى ... لشمسك من بعد الغروب شروق

وواضح أن الأبيات ليس فيها لوعة أمثال مجنون ليلى من أصحاب الحب العذرى، ولا فيها حرارة هذا الحب ولا ما يتّقد فى أفئدة العذريين من نيرانه. ويلقانا ركام هائل فى الغزل من زخارف البديع وكأنما أصبحت هى-لا الغزل ووجد المحب-الغاية فى هذا الغرض القديم من أغراض الشعر على نحو ما نرى فى قول ابن جزىّ (٢):

أبح لى يا روض المحاسن نظرة ... إلى ورد ذاك الخدّ كنت لك الفدا

وبالله لا تبخل علىّ بقطفة ... فإنّى عهدت الروض يوصف بالنّدى

وليس المراد بالندى المعنى القريب وهو قطراته الملائمة للروض وإنما المعنى البعيد وهو الكرم والسماح بما يريد، وهو-فى الواقع-لا يريد بالبيتين التعبير عن عاطفة حب، وإنما يريد التعبير عن تورية وهو لذلك يتكلف لها استعارة الروض والورد كما يتكلف طلب الإباحة، وكأنه بإزاء مسألة فقهية!

ويموج ديوان يوسف الثالث أمير غرناطة-المترجم له فى الفصل السابق-بالغزل، بل إنه محوره، إذ كثرة قصائده ومقطوعاته تدور عليه، وهو يكثر فيه من ذكر العفاف والعناصر البدوية كبارق وسلع والجرعاء والعذيب والرقمتين والغزال والرّيم والقباب والخيام والإبل المودّعة. وحقا هذا كله يطبع به الغزلون الأندلسيون أشعارهم وصلا محكما لها بالشعر العذرى ودقائقه الشعورية، غير أن حب يوسف الأمير حب سطحى متكلف أو هو حب مترف لا ينبع من القلب، مع أنه يكثر من ذكر الشريف الرضى ومهيار غير أن غزله ينقصه ما عندهما من الرقة والوجد واللوعة وأيضا ما عندهما من صفاء التعبير وعذوبته، ومن أجمل ما نقرأ له فى غزلياته قوله:


(١) الكتيبة الكامنة للسان الدين بن الخطيب ص ٢٢٥.
(٢) الكتيبة الكامنة ص ٢٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>