النسيم العليل يستشفى بشذاه وأريجه. ويبدو فى أشعارها له أنه استأثر بقلبها وأنه لم يدع فيه مكانا لسواه حتى لتنشده ملتاعة بحبه ناعمة به سعيدة، غير منكرة غيرتها عليه:
أغار عليك من عينى ومنّى ... ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أنى خبأتك فى عيونى ... إلى يوم القيامة ما كفانى
فهى تغار عليه غيرة لا تماثلها غيرة، حتى لتغار منه هو ومن كل ما يحيطه به من زمان ومكان، وتقول لو أنها خطفته ووضعته وراء جفونها فى عيونها إلى يوم القيامة ما كفاها.
وبينما هى تنعم بهذا الحب مع أبى جعفر إذا عثمان بن عبد المؤمن صاحب السلطان فى غرناطة ومن له كل الأمر والتدبير يعترض طريقهما المفروش بالورود والرياحين، وتخشى حفصة العاقبة، وتحاول أن تناوره وتداوره فتستأذن عليه فى يوم عيد كاتبة إليه:
يا ذا العلا وابن الخلي ... فة والإمام المرتضى
يهنيك عيد قد جرى ... منه بما تهوى القضا
وافاك من تهواه فى ... طوع الإجابة والرّضا
ويمتلئ قلب عثمان على كل من العاشقين موجدة وغيظا، وتزيده الوشايات موجدة على موجدة وغيظا على غيظ، إذ يقال له إن أبا جعفر قال لحفصة عنه: ما تحبين فى ذلك الأسود-وكان لون بشرته مائلا إلى السواد-فأسرّها فى نفسه، ونقلوا إليه أنه قال:
فقل لحريص إذ يرانى مقيّدا ... بخدمته لا يجعل الباز فى القفص
وواتت عثمان الفرصة للانتقام، فإن أخا أبى جعفر عبد الرحمن فرّ إلى ابن مردنيش الثائر فى شرقى الأندلس على الموحدين، ويبدو أن أبا جعفر فكر فى الانضمام إلى أخيه، فأمر عثمان بقتله، وقتل صبرا فى مالقة سنة ٥٥٩ للهجرة. وبكته حفصة طويلا وندبته ندبا حارّا ولبست عليه السواد، وهجرت غرناطة لغريمها عثمان إلى مراكش ولقيت أخاه سلطان الموحدين يوسف، وأنشدته من الشعر ما جعله يعطف عليها ويفسح لها فى قصره معلمة لفتياته، وتظل معززة مكرمة فى عاصمة الموحدين إلى أن لبت نداء ربها سنة ٥٨٦ الهجرة.