للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ممتزجان، مما يجعلنا نسوق الحديث عنهما معا. وقد يكون من الطريف أن نلتقى عند عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية فى تلك الديار بمقطوعة له فى وصف نخلة ببستان قصره فى قرطبة المسمى منية الرّصافة، وهى تمضى على هذا النمط (١):

تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل

فقلت: شبيهى فى التغرّب والنّوى ... وطول التنائى عن بنىّ وعن أهلى

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك فى الإقصاء والمنتأى مثلى

وكأن هذه النخلة رمز العرب هناك، وكأن هذه القطعة الشعرية أيضا بدورها رمز لهم بما تحمل من حنين لا ينقطع إلى الوطن البعيد، حنين مبثوث فى هذه النخلة الغريبة التى نقلها العرب إلى تلك الديار النائية القاصية البعيدة. وكما نقلوا النخلة معهم نقلوا إلى أشعارهم كل العناصر البدوية النجدية من أطلال وغير أطلال، ونقلوا ما استحدثه العباسيون فى وصف الطبيعة وسكبوا عليه من بيئتهم ومشاعرهم وأخيلتهم ما بث فيه الحياة والحيوية على نحو ما نجد فى هذه الأبيات البديعة المبكرة، وكأنها إرهاص لما يستشعره الشاعر الأندلسى من تمثل عناصر الطبيعة لمشاعر الإنسان. ونقلوا- بجانب ذلك-ما استحدثه العباسيون فى الخمر وخاصة أبا نواس، وممن حاول محاكاته مبكرا يحيى الغزال الذى ترجمنا له بين الهجائين، وله قصيدة على طريقة أبى نواس تصور مغامرة له فى حان من حانات الخمارين وفيها يقول (٢):

ولما أتيت الحان ناديت ربّه ... فثاب خفيف الروح نحو ندائى

فقلت أذقنيها فلما أذاقها ... طرحت عليه ريطتى وردائى (٣)

وهو يقول إنه حين ذاق خمر صاحب الحان بلغ من نشوته بها أن خلع ملابسه. وحرى بنا أن لا نأخذ مثل هذه الخمرية عند الغزال مأخذ الجد، فكثير من شعر الخمر-لا فى الأندلس وحدها بل فى كل البلدان العربية-كان يقال محاكاة لأبى نواس على سبيل الفكاهة فى المجالس، ومثل ذلك ما يقال فى وصف سقاتها والغزل بهم، فأكثر ذلك وجمهوره، إنما كان يقال على سبيل التندير والمداعبة، ولا يمثّل حقيقة ولا ما يشبه


(١) الحلة السيراء ١/ ٣٧.
(٢) الديوان ص ٤٣.
(٣) الريطة: الثوب الرقيق تحت الرداء.

<<  <  ج: ص:  >  >>