للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقيقة. ويقول عباس بن ناصح فى قطع مفازة ليلا (١):

ومخوفة تنفى مخافتها ... نوم الفتى ذى المرّة النّدب (٢)

للجنّ فى أجوازها لغط ... بالليل مثل تنازع الشّرب

وترى بها جون النّعام إذا ... أشرفن كالمهنوءة الجرب (٣)

وهو يصف سرى الليل فى فلاة مخوفة حتى ليخاف السرى فيها الشجاع شديد المضى. ويستلهم ما كرره طويلا ذو الرمة فى وصف الفلوات ليلا وعزيف الجن بها الذى يشبه كما يقول عباس بن ناصح لغط الشّرب، ويشبّه ما بها من النعام الأسود بالإبل الجرب المطلية بالقطران، وكأننا لا نقرأ لشاعر أندلسى فى القرن الثالث الهجرى وإنما نقرأ لشاعر نجدى من أمثال ذى الرمة. ويقول ابن عبد ربه فى وصف نهار ممطر (٤):

نهار لاح فى سربال ليل ... فما عرف الرّواح من البكور

وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنوّ البكر من خلف السّنتور

فالسحب منعقدة فى السماء والجو مظلم، ولا يدرى ابن عبد ربه هل الناس السائرون فيه باكرون أو مبكرون صباحا قبل طلوع الشمس أو هم رائحون أو راجعون، وأحيانا تتراءى عين الشمس رانية من بعيد، ولكن سرعان ما تختفى وراء السحب اختفاء الفتاة الرانية خلف الستور خجلا واستحياء. ونتقدم فى القرن الرابع الهجرى ونلتقى بيحيى بن هذيل وله أشعار كثيرة فى الربيع وأزهاره. وله فى وصف حمامة وأنينها محزونة لفراق صاحبها أو هديلها (٥):

ومرنّة والدّجن ينسج فوقها ... بردين من طلّ ونوء باك (٦)

مالت على طىّ الجناح وإنما ... جعلت أريكتها قضيب أراك (٧)

وترنّمت لحنين قد حلّتهما ... بغناء مسمعة وأنّة شاك

ففقدت من نفسى لفرط تلهّفى ... نفس الحياة وقلت من أبكاك

وهو يقول إن الحمامة ترن وتصدح والغيم يملأ أقطار الأرض والسماء ناسجا فوقها


(١) كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتانى (تحقيق د. إحسان عباس) ص ١٧٣.
(٢) ذو المرة: القوى الشجاع. الندب: الماضى.
(٣) جون: سود. المهنوءة: الإبل المطلية بالهناء وهو القطران.
(٤) الذخيرة ١/ ٧٧٩.
(٥) الذخيرة ٣/ ٣٤٦.
(٦) الدجن: الغيم يعم أطباق الأرض والسماء. النوء: المطر.
(٧) الأريكة: المقعد. قضيب: غصن.

<<  <  ج: ص:  >  >>