للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رداءين من طل ومطر تذرفه السحب، وهى محزونة قد مال رأسها على طى الجناح متخذة من غصن الأراك أريكة لها ومقعدا، وشجاها فراق صاحبها فهى تترنم بغناء ممزوج بأنين، مما جعله يذكر حبه ويملؤه تلهفا لرؤية صاحبته حتى لكأنما يوشك أن يفقد الحياة. ويبكى من حرق هواه بصاحبته، ويسأل الحمامة سؤال العارف من أبكاك؟ فنحن فى الهوى سواء.

وتكثر أشعارهم فى الأزهار، وكثيرون منهم يردون على ابن الرومى فى تفضيله النرجس على الورد، ولسعيد بن فرج فى الرد عليه قصيدة يقول فيها: (١)

أزعمت أن الورد من تفضيله ... خجل وناحله الفضيلة عاند

إن كان يستحيى لفضل جماله ... فحياؤه فيه جمال زائد

فهو يجعل خجل الورد لاحمرار وجنته من جوهر حسنه يزيده جمالا على جمال، فهو ليس احمرارا ولا خجلا عارضا أمام النرجس، بل هو جزء لا يتجزأ من جماله. ونزل الرمادى ضيفا على صحب له فى مدينة وادى آش إلى الشمال الشرقى من غرناطة، وكان الوقت شتاء، وقدموا له احتفالا به باقة من الورد كانوا اجتلبوها من بجّانة فى الجنوب الشرقى، فتعجب من وجود الورد فى وادى آش شتاء، فقالوا له إنه من بجّانة، فأخلد إلى الصمت ولم يلبث أن لثمها وأنشد (٢)

يا خدود الحور فى إخجالها ... قد علتها حمرة مكتسبه (٣)

اغتربنا أنت من بجّانة ... وأنا مغترب من قرطبه

واجتمعنا عند إخوان صفا ... بالنّدى أموالهم منتهبه

إنّ لثمى لك قدّامهم ... ليس فيه فعلة مستغربه

لاجتماع فى اغتراب بيننا ... قبّل المغترب المغتربه

والمقطوعة مع سهولة ألفاظها تفيض بالعاطفة، وكأنه أعاد لنا حديث عبد الرحمن الداخل السابق إلى النخلة، فهو والوردة متماثلان فى الغربة، وأضاف إلى ذلك حبا للوردة ولثما وتقبيلا عند إخوان صفاء كرام كرما فيّاضا. وكان للمنصور بن أبى عامر الحاجب ثلاث جوار سماهن بأسماء الأزهار: بهار ونرجس وبنفسج، ونرى عبد الملك بن إدريس


(١) الحميدى ٢١٢.
(٢) البديع فى وصف الربيع لأبى الوليد إسماعيل بن عامر الحميرى (تحقيق هنرى بيريس-طبع الرباط) ص ١٢٢.
(٣) الحور جمع حوراء: المرأة البيضاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>