للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجهها وشحب لفراق هذا المنظر، وشعل البرق كأنها رقى تريد أن ترقيها والغمامة تنفث كما ينفث الراقى فى العقد. ومن قوله فى إحدى خمرياته:

وأراكة ضربت سماء فوقنا ... تندى وأفلاك الكئوس تدار

حفّت بدوحتها مجرّة جدول ... نثرت عليه نجومها الأزهار

وكأنّها وكأنّ جدول مائها ... حسناء شدّ بخصرها زنّار (١)

زفّ الزجاج بها عروس مدامة ... تجلى ونوّار الغصون نثار (٢)

وقد جعل ابن خفاجة الأراكة التى جلس مع ندمائه تحتها سماء، ومضى يستتم الصورة، فالكئوس تدار وكأنها النجوم تدار فى الأفلاك، والجدول وما حوله من الأزهار كأنه المجرة بما حولها من النجوم، وكأن الأراكة وما بجانبها من الجدول حسناء شدت حزاما إلى خصرها. وهذا زجاج الكئوس يزفّ المدامة إلى الشاربين ويجلوها عليهم، وما النوار والأزهار إلا نثار الدراهم والدنانير يلقى به المحبون فى هذا العرس الكبير.

وواضح ما يتميز به شعر الطبيعة عند ابن خفاجة من بث العواطف والمشاعر فى عناصر الطبيعة، بحيث يصبح لكل عنصر أحاسيسه التى يشترك بها مع غيره من العناصر.

وتتراكم هذه الأحاسيس فى شعره وتتراكم معها تصاوير الطبيعة، مما جعل بعض الأندلسيين من موطنه يعيب عليه كثرة معانيه وازدحامها فى البيت الواحد، وهى ليست كثرة معان إنما هى كثرة تصاوير، وهى ليست عيبا بل هى حسنته وفضيلته، إذ أحس بعناصر الطبيعة إحساسا عميقا، وهو إحساس تفرّد به لا بين شعراء الأندلس وحدهم بل بين شعراء العربية جميعا، بحيث يعد أكبر شعراء الطبيعة عند العرب فى مختلف عصورهم، وجعله إحساسه بها ينقل أوصافها إلى المديح فيقول فى أبى بكر بن تيفلويت والى سرقسطة:

وجلا الإمارة فى رفيف نضارة ... جلت الدّجى فى حلّة الأنوار

متقسّم ما بين شمس دجنّة ... طلعت وبين غمامة مدرار

أرج النّدىّ بذكره فكأنه ... متنفّس عن روضة معطار

فهو قد جلا الإمارة فيما يشبه رفيف البساتين من الرى والنضارة، حتى لكأنما أسبغت على الليل الداجى حلة من الأنوار، وما أروع طلعته كأنها طلعة شمس من دجنّة مظلمة


(١) زنار: حزام يشد فى الوسط.
(٢) النثار: ما ينثر على العروس فى الزفاف من الدراهم والدنانير.

<<  <  ج: ص:  >  >>