تضئ للأبصار، وكأنما يداه غمامة ما تزال تهمى بالنوال على العفاة والزوار، وإن ذكره فى النّدىّ ليملؤه بأريجه العطر، حتى لكأنه يتنفس عن روض فائح العطر. وكما يمزج الطبيعة بالمديح يمزجها بمراثيه كقوله فى رثاء صديق عزيز:
فى كلّ ناد منك روض ثناء ... وبكل خدّ فيك جدول ماء
ولكل شخص هزّة الغصن النّدى ... تحت البكاء ورنّة المكّاء
وهو يقول-مخاطبا صديقه-إن كل ناد تحول إلى روض ثناء عليك وكل خد هطلت عليه الدموع الكثيرة حتى استحال كل شخص بأنينه وانهمار دموعه إلى ما يشبه هزة الغصن الندىّ ورنة طائر المكاء الصغير يبكى أليفته.
ولم نتمثل حتى الآن بشئ من شعر الطبيعة الذى نظمه فى الفترة الأخيرة من حياته، فترة التأمل فى مصيره وما ينتظره، مثل أقرانه الذين رثاهم مرارا، من الموت والعدم، ولعل خير قصيدة تصور هذه الفترة قصيدته البائية المعنونة فى الديوان بأنه قالها فى الاعتبار، وهو يفتتحها بوصف سّراه فى الليل وكيف أن وجوه الموت كانت تتجلى له دائما، وكأنما يصف رحلته الطويلة فى الحياة، ويلتقى فى سراه بجبل ضخم شاهق شامخ ويقيم معه حوارا ينطقه فيه بما يدور فى نفسه، إذ يقول له: كم آوى إلىّ واستوطننى من فتّاك ونسّاك وكم مرّ بى من غادين ورائحين وراكبين وراجلين، وكلهم عصف بهم الموت، يقول:
وما كان إلا أن طوتهم يد الرّدى ... وطارت بهم ريح النّوى والنّوائب
وما خفق أيكى غير رجفة أضلع ... ولا نوح ورقى غير صرخة نادب
فحتى متى أبقى ويظعن صاحب ... أودّع منه راحلا غير آيب
فسلّى بما أبكى وسرّى بما شجى ... وكان على ليل السّرى خير صاحب
فالجبل مثله محزون لما يرى من مصير الناس جميعا صالحين وطالحين إلى الموت والفناء وفقدان الحياة. وكل شئ يشترك مع الجبل ومع ابن خفاجة فى الإحساس بهول هذا المصير حتى ليرتجف الأيك والشجر وينوح الورق أو الحمام فزعا لهذا المصير المفجع لكل الناس. ويستطيل الجبل وابن خفاجة بقاءهما بعد رحيل كل الصحاب. ويقول إن الجبل سرّى عن نفسه لأنه وجد عنده نفس الحزن ونفس الشجا إزاء ما يشعر به من تلاحق الفواجع بالناس وأن كل من على الأرض كركب واقفين ينتظر كل منهم دوره للرحيل إلى الدار الباقية.