للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا ارتجعت أيدى الليالى هباتها ... فغاية هاتيك الهبات نهاب

تخبّ بنا فى كلّ يوم وليلة ... مطايا إلى دار البلى وركاب (١)

وهل مهجة الإنسان إلا طريدة ... تحوم عليها للحمام عقاب (٢)

وهو يقول إن الليالى إذا أعادت إلينا هبة سرعان ما تستردها، وكأننا غافلون، فتلك مطايا الموت تعدو بنا فى كل يوم مسرعة إلى دار الفناء، وما أشبه روح الإنسان بطريدة صيد تحوم عليها عقبان الموت ونسوره. ويقول أبو الحسن سهل بن مالك راثيا ومعزيا فى ابن رشد فيلسوف الأندلس المشهور (٣):

مضى علم العلم الذى ببيانه ... تبيّن خافيه وبان طريقه

رجوعا إلى الصّبر الجميل فحقّه ... علينا قضى أن لا تؤدّى حقوقه

أعزّيكم فى البعد عنه فإننى ... أهنّيه قربا من جوار يروقه

وما كان فينا منه إلا مكانه ... وفى العالم العلوىّ كان رفيقه

وهو يقول إن علم العلم الذى طالما أوضح خفياته وذلّل مشكلاته مات، وليس أمامنا إلا الصبر على هذه الفجيعة الموجعة: الصبر الجميل الذى دعا إليه الذكر الحكيم بقوله:

{وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} وإن التمسك بعرى هذا الصبر وحقوقه ليحول بيننا وبين أن نؤدى لهذا العالم العظيم ما ينبغى من العويل والبكاء. ويقول لرفاقه من تلاميذ ابن رشد: إذا كنت أعزيكم فيه فإنى أهنئه بالجوار الذى يروقه، جوار الملائكة المصطفين الأخيار، وهل كان معنا منه إلا مكانه وجسده، أما روحه فكانت فى العالم الأعلى الذى صعدت إليه. ويقول ابن زمرك فى رثاء سلطان غرناطة الغنى بالله صفيّه وخليله حين توفى لسنة ٧٩٣ معزيا ابنه وخليفته يوسف (٤)

عزاء أمير المسلمين فإنها ... مقادير ربّ الخلق فى الخلق يجريها

هو الموت ورد للخليقة كلّها ... أواخرها تقفو سبيل أواليها (٥)

وما بيننا حىّ وما بين آدم ... ألا هكذا سوّى البريّة باريها

وفى موت خير الخلق أكبر أسوة ... تصبّر أحرار النفوس وتسليها


(١) تخب: تعدو. ركاب: مطايا معدة للركوب.
(٢) الحمام: الموت.
(٣) اختصار القدح المعلى ص ٦٣.
(٤) أزهار الرياض ٢/ ١٥٥.
(٥) تقفو: تتبع.

<<  <  ج: ص:  >  >>