بمنبتة الزّيتون مورثة العلا ... تغنّى قيان أو ترنّ طيور
بزاهرها السّامى الذّرى جاده الحيا ... تشير الثريّا نحونا ونشير
لقد أصبح غريبا وأسيرا منفيا فى المغرب وإن منبر خطابته وعرش إمارته ليبكيانه وتبكى شجاعته السيوف والرماح، ويتقاطر دمع غزير، ويتساءل هل يمكن أن ينعم ليلة بما كان فيه من بساتين ورياض بإشبيلية بلدة الزيتون والعز والعلا والقيان المغنيات الجميلات والطيور الصادحات حول قصوره: الزاهر والثريا وغيرهما مما تأنق فى بنيانه. لقد تحولت كل هذه المباهج التى نعم بها المعتمد فى إشبيلية إلى متاعس فى أغمات، وحانت منه التفاتة فرأى قمريّة تنوح بفننها وأمامها وكر أوعشّ به حمامتان، وكأنها تبكى أليفها فقال:
بكت أن رأت إلفين ضمّهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدّهر
بكت لم ترق دمعا وأسبلت عبرة ... يقصّر عنها القطر مهما همى القطر
وناحت وباحت واستراحت بسرّها ... وما نطقت حرفا يبوح به سرّ
فما لى لا أبكى؟ أم القلب صخرة ... وكم صخرة فى الأرض يجرى بها نهر
بكت واحدا لم يشجها غير فقده ... وأبكى لألاّف عديدهم كثر
وهو يقول إن القمرية بكت حين رأت إلفين فى وكر، بينما هى فقدت إلفها، فهى تبكيه بدمع مترقرق فى جفونها لا يبلغ تعبيره فى الحزن والشجا القطر مهما همى وسال. ويقول كأنما نواحها أراحها من سرها الدفين سر حزنها على إلفها الذى فقدته، ويخاطب نفسه لماذا لا أبكى؟ هل أنا صخرة؟ ومع ذلك فالصخر تتشقق منه-وتجرى به-الأنهار والمياه الغزيرة، ولقد بكت واحدا شجاها وأحزنها فقده، وحرى بى أن أبكى ألاّفى وخلاّنى الذين يخطئهم العد. ويمر به سرب قطا فيهيج وجده ويحرّك شوقه، ويتمنى لو كان مثله حرا ينطلق كما شاء، ويدعو له منشدا:
ألا عصم الله القطا فى فراخها ... فإنّ فراخى خانها الماء والظّلّ
فهو يدعو لكل قطاة أن يعصمها الله فى فراخها فلا تصاب بظمأ ولا بمسغبة ولا بعناء كما أصيب أولاده من بنين وبنات. وللمعتمد أشعار أخرى كثيرة تصور لوعته لفقده ملكه وحرقة فؤاده على فلذات كبده.