للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو يتحدث عن الدهر وأنه دائما يرسل فواجعه على المحسوس وما وراء المحسوس، ففيم الحزن على من يموتون، وهم ليسوا إلا أشباحا وصورا، ويقول إننى لا أقصّر فى وعظك ونهيك عن الاستنامة إلى الدهر، وهو قد أنشب فيك نابه وظفره. ويدعو الله أن يقيلنا وينقذنا من عثرات الليالى وأن يسلط عليها الأحداث حتى تنهكها ولا تبقى فيها بقية، إذ فى كل حين تصيبنا فى عضو منا عزيز علينا بجراح، منها ما نراه، ومنها ما يزيغ عن البصر، وإنها إن سرّت بشئ-وهيهات-فلكى تخدعنا به، بل لكى تلسعنا من خلاله اللسعة القاضية، كالأفعى المختبئة فى الزهر تلسع يد قاطفه اللسعة السامة المميتة.

ويأخذ فى العظة بذكر من أبادتهم الليالى والأيام من الدول العظيمة منشدا:

كم دولة وليت بالنّصر خدمتها ... لم تبق منها-وسل دنياك-من خبر

هوت بدارا وفلّت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأملاك ذا أثر (١)

واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبنى يونان من أثر

وأتبعت أختها طسما وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض المرر (٢)

ومزّقت سبأ فى كل قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر (٣)

وهو يقول: دول كثيرة أتاحت الليالى لها الظفر والرفعة، ثم عادت فهوت بها من حالق، هوت بدارا ملك الفرس، فقتله الإسكندر المقدونى، ولم تلبث أن هدّت منه، وكان سيفا قاطعا ساطعا فثلّمته وحطمته. وقد استرجعت من بنى ساسان ملوك الفرس كل ما وهبتهم من عز ومجد، ولم تدع لليونانيين شعب الإسكندر من أثر كأن لم يكونوا شيئا مذكورا. وبالمثل صنعت بقبيلتى طسم وأختها جديس فى اليمامة، وكرّ الدهر على عاد وجرهم نكباته حتى محاهما محوا، ومزقت الليالى سبأ كل ممزق، فتفرق أهلها فى الأرض ولم يلتق منهم رائح بغاد مبكر. ويمضى ابن عبدون فى الحديث عمن أهلكتهم الليالى من أعاظم العرب فى الجاهلية والإسلام مشيرا معهم إلى كثير من الأحداث فى العصر الجاهلى وصدر الإسلام والعصرين الأموى والعباسى مما يدل بوضوح على اتساع ثقافته وكيف يتحول التاريخ إلى شعر وفن، ثم يخاطب المتوكل عمر وآباءه بنى المظفر أمراء بطليوس:

بنى المظفّر والأيام ما برحت ... مراحلا والورى منها على سفر

سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة فى مقبل العمر


(١) العضب: السيف القاطع. أثر: فرند ورونق.
(٢) المرر جمع مرة: القوة. ناقض المرر: الدهر.
(٣) مبتكر: مبكر فى الذهاب ضد رائح: راجع.

<<  <  ج: ص:  >  >>