للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نور تردّد فى طين إلى أجل ... فانحاز علوا وخلّى الطين للكفن

يا شدّ ما افترقا من بعدما اعتلقا ... أظنّها هدنة كانت على دخن (١)

إن لم يكن فى رضا الله اجتماعهما ... فيالها صفقة تمّت على غبن (٢)

وهو يقول لمن يبكى على أحبابه حين يختطفهم الموت أتبكى لفراقهم ولا تبكى لما ينتظرك من فراق الروح للبدن، وكأنما كانت الروح نورا تردد وقتا فى طين الجسد، ثم تسامى عنه علوا وخلاّه للكفن، وإنها لفرقة شديدة بعد امتزاجهما طول الحياة، وكأنما كانت بينهما هدنة غير صافية، ويقول إن اجتماعهما وامتزاجهما إن لم يكن فى رضا الله كان صفقة أو بيعة خاسرة.

وتكاثر الزهاد لعهد يعقوب الموحدى وكوّن منهم فرقة كبيرة جعلها بمقدمة جيشه فى غزوة الأرك المشهورة لسنة ٥٩١ وكان يشير إليهم فى الغزوة. ويقول: هؤلاء هم الجند، لا أولئك ويشير إلى العسكر. ويقول صاحب المعجب إنه حين رجع من المعركة أمر لهؤلاء الزهاد الصالحين بأموال عظيمة، ومنهم من رأى قبول العطية، ومنهم من ردّها، وتساوى عنده الفريقان وقال: لكل مذهب (٣). ومن كبار الزهاد حينئذ أبو عمران (٤) موسى بن عمران المارتلى وهو من مارتلة، حصن من حصون باجة، وعنه قال ابن الأبار فى التكملة:

كان منقطع القرين فى الورع والزهد والعبادة والعزلة، وله فى ذلك آثار معروفة مع الحظ الوافر من الأدب والتقدم فى قرض الشعر فى الزهد والتخويف، وكان ملازما لمسجده بإشبيلية، توفى سنة ٦٠٤ عن اثنتين وثمانين سنة، ومن شعره:

إلى كم أقول ولا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل

وأزجر عينى فلا ترعوى ... وأنصح نفسى فلا تقبل

وكم ذا أؤمّل طول البقا ... وأغفل والموت لا يغفل

وفى كل يوم ينادى بنا ... منادى الرحيل ألا فارحلوا

كأن بى وشيكا إلى مصرعى ... يساق بنعشى ولا أمهل

وهو يتلوم نفسه فكم ينوى الخير ولا يفعل وكم يروم العمل الطيب ولا يعمل، وكم يزجر عينه أن لا تنظر إلى المحرمات ولا تزدجر، وكم ينصح نفسه أن ترعوى


(١) هدنة على دخن: هدنة على فساد وعدم صفاء.
(٢) الغبن فى البيع: الوكس والخسارة.
(٣) المعجب للمراكشى ص ٣١٣.
(٤) انظر فى ترجمة أبى عمران المارتلى المغرب ١/ ٤٠٦ والنفح ٣/ ٢٢٥، ٢٩٦ والتكملة ص ٤٥٧ وتحفة القادم رقم ٥٨ والغصون اليانعة ص ١٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>