للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا تنتصح، وكم يؤمل فى البقاء غافلا عن الموت والموت لا يغفل، وكأنه لا يسمع منادى الرحيل، مع أنه قريبا سيرحل، ويحمل فى نعشه ولا يمهل.

ومنذ عصر المرابطين نجد كثرة الزهاد تتحول إلى التصوف وعالمه، وتظل أسراب شعر الزهد الذى كان يجرى على ألسنة العلماء والشعراء تنطلق فى مجراها الذى بدأت مسيرتها فيه منذ عصر الدولة الأموية، من ذلك قول حازم القرطاجنى (١):

لم يدر من ظنّ الحياة إقامة ... أنّ الحياة تنقّل وترحّل

فى كل يوم يقطع الإنسان من ... دنياه مرحلة ويدنو المنهل

يحظى السعيد به بطول سعادة ... وأخو الشقاوة للشقاوة ينقل

لا تبك إشفاقا لما استدبرته ... ولتبك إشفاقا لما تستقبل

وهو يقول: من الخطأ أن يظن الإنسان أن الحياة دار إقامة، فإنها دار تنقل وارتحال، فى كل يوم يقطع الإنسان فيها مرحلة من حياته إلى أن تكون المرحلة الأخيرة، وينتقل إلى حياته الثانية فينتقل إما إلى سعادة ونعيم وإما إلى شقاوة وجحيم، ومن عجب أن يبكى المرء إشفاقا على ما خلّف منها وراء ظهره وحقه أن يبكى إشفاقا على ما يستقبله فى آخرته من مصير غير معروف: شقى أو سعيد. ويقول ابن خاتمة متشبثا بعفو الله ورحمته فى أول قصيدة بديوانه:

لقد فتح الرّحمن أبواب عفوه ... لمن راجع الذّكرى وأقبل خاشيا

إلهى لا تفضح عوارا سترته ... فما لى مأمول سواك إلهيا (٢)

هلكت ردى إن لم أنل منك رحمة ... تبعّد روعاتى وتدنى أمانيا

لعلّ الذى قام الوجود بجوده ... يعيد بحسن اللّطف حالى حاليا (٣)

وهو يقول إن الله-جلّ شأنه-فتح أبواب عفوه على مصاريعها لمن راجع نفسه وأقبل خاشيا منيبا، ويدعو الله أن يستر عيوبه ويرحمه رحمته الواسعة، ويرجوه بجوده الفياض على الوجود أن يعيد حاله حاليا مزدانا. ويستغيث لسان الدين بن الخطيب بربه منشدا (٤):


(١) الديوان ص ٩٧.
(٢) العوار: العيب.
(٣) حاليا: مزدانا.
(٤) أزهار الرياض ١/ ٢٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>