زهير الصقلبى أميرها، مما يدل على حسن منزلته عند القاضى وأنه ظل كاتبا له إلى أن أخذ يحمل بعنف على إسماعيل بن النغريلة اليهودى وزير الأمير باديس لتسلطه-مع من عهد إليهم بالعمل معه من اليهود-على شئون الحكم. واستطاع إسماعيل أن يستصدر أمرا من باديس بنفى أبى إسحق من غرناطة إلى إلبيرة، وربما عاد حينئذ إلى مسقط رأسه فى العقاب. وتوفى إسماعيل بن النغريلة، وخلفه فى وزارة باديس ابنه يوسف فزاد الطين بلة، وضج الناس، وكان أبو إسحق قد عاد إلى غرناطة، فألقى فى أهلها قصيدة كانت أشبه بقنبلة، طالب فيها بقتل يوسف، وردّدها الناس فى الشوارع، وسرعان ما نشبت لسنة ٤٥٩ ثورة ضارية على اليهود ألممنا بها فى حديثنا عن الهجاء، وكان أبو إسحق قد بلغ العقد التاسع من عمره فلبّى نداء ربه فى نحو سنة ٤٦٠ للهجرة. ولم يحمل أبو إسحق عن أستاذه ابن أبى زمنين مصنفاته فى الفقه والحديث فقط. بل حمل عنه أيضا مصنفاته فى الوعظ وأخبار الصالحين. ولا يقل عن ذلك كله أهمية حمله عنه أشعاره الزهدية، مما غرس الزهد فى نفسه مبكرا، وأتيحت له ملكة شعرية خصبة، فاستغلها فى نظم أشعار زهدية كثيرة، ويقول ابن الأبار:«كان من أهل العلم والعمل شاعرا مجودا وشعره مدون وكله فى الحكم والمواعظ والأزهاد» ويقول ابن سعيد: «له ديوان ملآن من أشعار زهدية، ولأهل الأندلس غرام بحفظها» وهو غرام مرجعه إلى ما تمتاز به زهدياته من لغة ناصعة وخواطر منوعة تمس القلوب بما تحمل من فيض المشاعر الدينية، وكأنما يستمد من نبع حماسى يتدفق فى عذوبة. والديوان يستهل بتائية فى مائة بيت وسبعة يفتتحها بقوله:
تفتّ فؤادك الأيام فتّا ... وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ... ألا يا صاح: أنت أريد أنتا
ويمضى أبو إسحق فى القصيدة بهذه الصياغة والمعانى التى تؤثر فى الأفئدة تأثيرا يملك على قارئه وسامعه كل شئ من أمره، فالدنيا عروس غادرة، والعاقل يفصل نفسه منها دون رجعة، وويح الإنسان ينام ويستغرق فى نومه حتى إذا وافاه الموت انتبه بعد انخداعه.
ويقول إلى كم ينخدع ولا يرعوى، وكان أولى به أن يرفض متاع الحياة الدنيا وكل ما يتصل به من طعام وشراب، فالقوت الحقيقى هو قوت الروح، وحرى به أن لا يحفل بجاه ولا بمال ولا بقصور مشيدة. ولن يضره الفقر إذا ما عرف ربه، ويقول: ما الدنيا إنها تسوء حقبة وتسر وقتا، ويحبها الإنسان مع أنه مسجون فيها وهل يحب أحد سجنه، ولا يغره طعامه فيها فستأكله حطاما، وكل يوم يشهد فيها دفينا، وهو لم يخلق ليعمرها،