احتذى الفرس الساسانيون معهم سياسة الرومان والبيزنطيين أعدائهم التقليديين مع عرب الشام. وربما كان جذيمة الأبرش أهم ملك أسطورى ظهر فى هذه الأنحاء قبل اللخميين، ويقال إنه كان يعاصر الزباء، وخلفه ابن أخته عمرو بن عدى اللخمى وهو رأس المناذرة. وتاريخهم أكثر وضوحا من تاريخ الغساسنة، وربما كان ذلك يرجع إلى أن ملوك الفرس دونوا تاريخهم، فأخذه عنهم العرب، على أن ابن الكلبى يزعم أنه استخرج تاريخهم من بيع الحيرة وأديرتها.
وكان هؤلاء العرب العراقيون ينزلون فى الخيام أولا، ثم تحولوا إلى قرية فى الجنوب الشرقى من النجف الحالية، كانت تقع فى منطقة خصبة يرويها نهر الفرات، وهى الحيرة (تحريف لكلمة حرتا فى السريانية ومعناها المخيم أو المعسكر) وسرعان ما نصب عليها الساسانيون المناذرة ليحموهم من غارات البدو وليساعدوهم فى حروبهم ضد الرومان والبيزنطيين وأحلافهم من الغساسنة عرب الشام. ويقال إن سابور (٢٤١ - ٢٧٢) هو الذى نصب عمرو بن عدى، وتتابع من بعده خلفاؤه من بيته، وربما كان ابنه امرؤ القيس الذى عثر على نقشه فى النمارة كما أسلفنا يدين بالولاء للفرس والروم جميعا. أما من خلفوه فكانوا يدينون بهذا الولاء للفرس وحدهم. ومن أهمهم النعمان الأعور أو السائح، وكان له جيش قوى يتألف من كتيبتين هما الشهباء والدوسر، واشتهر ببنائه قصرى الخورنق والسّدير، ونرى الملك الساسانى الذى كان يعاصره وهو يزدجرد الأول (٣٩٩ - ٤٢٠) يرسل أكثر أبنائه إليه، لينشأ فى قومه، وليتعلم الفروسية والصيد، وهو بهرام جور.
ولما توفى يزدجرد أراد الفرس إقصاءه عن العرش فتدخل النعمان، وأيده بجيش مكنه من استرداد عرشه، فأعلى ذلك من شأن المناذرة والحيرة. وهيأ لها موقعها فى طرق القوافل أن كانت مركزا مهمّا للتجارة، فعاش المناذرة معيشة يسودها غير قليل من الترف، بسبب التجارة التى كانوا يشاركون فيها وبسبب ما كان عندهم من حياة زراعية. ومن غير شك يسبق المناذرة الغساسنة فى الرخاء، ولعل ذلك ما جعل حياتهم أكثر استقرارا بالقياس إلى غساسنة الشام، كما جعلهم أكثر حضارة ورقيّا.
وأرهى عصورهم عصر المنذر بن ماء السماء (حوالى ٥١٤ - ٥٥٤ م) وقد