للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويختص به الأنبياء والأولياء. وأهم من ذلك عقيدته فى وحدة الوجود، وهى التى ملأت كتاباته وأشعاره بالألغاز، واختلف إزاء عباراتها العلماء من معاصريه ومن جاء بعدهم، فمنهم من قال إن لها باطنا سوى ظاهرها وتأوّلها، ومنهم من قال بمروقه من الدين الحنيف لمثل قوله: «إن الحق المنزّه (أى الله) هو الخلق المشبّه» و «إن العالم صورة الله وهوية الله». وربما كان ابن تيمية أكثر خصومه إنصافا له إذ قال إنه أقرب الصوفية القائلين بوحدة الوجود إلى الإسلام، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر ويقر الأمر والنهى والشرائع على ما هى عليه ويأمر فى السلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات» (١).

ويمكن أن تؤوّل العبارتان السالفتان اللتان جعلتا كثيرين يحملون عليه حملات شعواء بسببهما أنه إنما يريد أن الله المنزّه عن الشبه بالخلق يتجلّى فيهم كما يتجلى فى العالم بتكوينه له وخلقه. وبالمثل عباراته الأخرى الموهمة التى إن أخذت على ظاهرها ظنّ به المروق من الدين والضلال، بينما لو أخذت بباطنها حملت على الإيمان والعرفان، وهو ما جعل كثيرين من معاصريه ومن جاء بعدهم يدافعون عنه. وقد سمع على الشيوخ بجانب صحيح الترمذى السالف صحيح مسلم وصحيح البخارى، وأجاز له السلفى فى الإسكندرية أن يحدث عنه، وأجازه ابن الجوزى فى بغداد وابن عساكر فى دمشق، وهم جميعا من كبار المحدثين فى عصره سوى شيوخ كثيرين. وبجانب هذه الشعبة الكبيرة فى عقيدته: شعبة وحدة الوجود تتراءى شعبة ثانية كبيرة هى شعبة المحبة الإلهية، وقد صورها مبكرا فى ديوانه: «ترجمان الأشواق» ومن يقرؤه حسب ظاهره يظن أنه غزل صبّ عاشق لنظام-كما يقال-فتاة الشيخ مكين الدين إمام مقام إبراهيم فى الحرم المكى، إذ يصف جمالها وفتنته به ودارها والأطلال والمنازل ودلالها ومراشفها ولوعته وحرقة فؤاده بحبها وسهام عيونها وفتور أجفانها وكأننا بإزاء شاعر من شعراء الغزل العذرى على شاكلة قوله:

مرضى من مريضة الأجفان ... علّلانى بذكرها علّلانى

بأبى طفلة لعوب تهادى ... من بنات الخدور بين الغوانى

طلعت فى العيان شمسا فلمّا ... أفلت أشرقت بأفق جنانى

بأبى ثمّ بى غزال ربيب ... يرتعى بين أضلعى فى أمان

فهو محب موجع الفؤاد أو هو مريض مرضا لا يرجى له منه شفاء لما وقع فى قلبه من


(١) انظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (طبع دار المنار) ١/ ١٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>