للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حب هذه الفتاة أو هذه الطفلة اللعوب التى رآها تتبختر بين الغوانى الجميلات. وحين رآها ظنها شمسا فقد ملأت كل ما حوله وكل ما فيه من جنان أو عقل وغير عقل واستقر حبها فى قلبه وملك عليه كل شئ من أمره. وإنه ليفدى بروحه هذا الغزال المصون الذى يرعى بين أضلعه فى قلبه وسويداء فؤاده. والديوان كله-على هذا النحو- غزل وصبابة لا سبيل إلى إطفائها إذ تستمد من وجد ملتاع ما يزال ابن عربى يذوق ناره المحرقة، وليست نار الفتاة نظام، وإنما هى نار المحبة الربانية، وإلى ذلك يشير فى الديوان منشدا:

كلّ ما أذكره من طلل ... أو ربوع أو مغان كلّ ما

أو نساء كاعبات نهّد ... طالعات كشموس أودمى

صفة قدسيّة علويّة ... أعلمت أنّ لصدقى قدما

فاصرف الخاطر عن ظاهرها ... واطلب الباطن حتى تعلما

وهو لا يذكر فى القصيدة الطلول والربوع والمغانى أو المنازل والنساء المشرقات كالشموس والدمى فحسب، بل يذكر أيضا: نجدا وتهامة والسحب تبكى والزهر يبتسم والمواضع النجدية مثل الحاجر وورق الحمام وأنينها والبروق والرعود والرياح والطرق والجبال والتلال والعقيق والنّقا والرّبى والرياض والغياض، وكل ذلك حين يذكره صفات قدسية علوية يتخذها رموزا لبيان حبه الربانى وأسراره وأنواره فى فؤاده، وهو حب يتسع به حتى ليشمل أصحاب الديانات جميعا، إذ يقول:

لقد صار قلبى قابلا كلّ صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت ... ركائبه فالحبّ دينى وإيمانى

فدينه الحب الذى يسع جميع الديانات السماوية والوثنية، ولعل هذه شطحة من شطحاته الصوفية، إذ لا يمكن أن يصبح الناس أمة واحدة فضلا عن أن يكون دينها المحبة. وله بجانب أشعاره موشحات صوفية، وتميزها نفس العذوبة والسلاسة اللتين نجدهما فى شعره كقوله فى إحدى موشحاته:

يقول والوجد ... أضناه والبعد قد حيّره

وهيّم العبد ... والواحد الفرد قد خيّره

فى البوح والكتمان ... والسرّ والإعلان فى العالمين

<<  <  ج: ص:  >  >>