للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على تراجم الأمراء والأعيان فى الأندلس والمغرب-تحفة القادم فى شعراء عصره-إعتاب الكتاب: عن الكتّاب الذين فقدوا مكانتهم وحظوتهم عند الحكّام ثم استعادوها، وبهذا الكتاب استعاد مكانته عند المستنصر، ثم غضب عليه.

وكان ابن الأبار شاعرا مجيدا، وحين حدثت وقعة أنيشة أظلمت الدنيا فى عينيه لمن استشهدوا فيها من الشيوخ الجلة وخاصة شيخه أبا الربيع الكلاعى، وكان قد بلغ السبعين من عمره، وحين سمع النفير بادر لقتال أعداء الإسلام، ولم يزل متقدما أمام الصفوف زاحفا إلى الأعداء مرغّبا فى قتالهم مناديا فيمن ينهزمون: أعن الجنة تفرّون؟ وظل يعمل السيف فى الأعداء حتى استشهد مع من استشهدوا من شيوخ بلنسية وشجعانها البواسل، وندبهم معه ابن الأبار بقصيدة، تشعل الحمية فى قلب كل مسلم، وفيها يقول:

ألمّا بأشلاء العلا والمكارم ... تقدّ بأطراف القنا والصّوارم (١)

مضوا فى سبيل الله قدما كأنما ... يطيرون من أقدامهم بقوادم (٢)

مواقف أبرار قضوا من جهادهم ... حقوقا عليهم كالفروض اللّوازم

أبيت لها تحت الظلام كأننى ... رمىّ نصال أو لديغ أراقم (٣)

فوا أسفى للدّين أعضل داؤه ... وأيأس من آس لمسراه حاسم (٤)

وهو يهيب بكل مسلم أن يلمّ بتلك الأشلاء الطاهرة التى قطّعتها ومزقتها رماح النصارى وسيوفهم ويقول إنهم مضوا إلى الجهاد فى سبيل الله مسرعين، كأنهم طير وأقدامهم قوادمه، حتى يؤدوا حقوق دينهم أداء المجاهدين الأبرار. وإن ذكرى الواقعة وشهدائها لتحز فى نفسه، بل لكأنما رمى منها بنصال تنزف الدم من فؤاده، أو كأنه لديغ حيات ما تزال سمومها تسرى فى شرايينه. ويتحسر للدين الحنيف فى الأندلس فكأنما أنزل النصارى به داء عضالا، لا يمكن لطبيب أن يشفيه منه أو يحسمه. وذكرنا آنفا أنه حين قدم مع وفد بلنسية على أبى زكريا صاحب تونس أنشده قصيدة يستصرخه بها لإنقاذ بلنسية ويقول ابن سعيد: عارضها كثير من الشعراء ما بين محظىّ ومحروم، وولع الناس


(١) تقد: تشقق. القنا: الرماح. الصوارم: السيوف.
(٢) قدما: مسرعين. القوادم: الريشات الكبيرة فى مقدم الجناح.
(٣) نصال جمع نصل: حد السيف. الأراقم: الحيات.
(٤) أعضل الداء: لم يمكن البرء منه. آس: طبيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>