وكنية أخرى بأبى الطيب، ومسقط رأسه رنده إلى الغرب من مالقة، على قمة جبل سامق يشقها نهر وينابيع وتحفّها وديان، مما جعلها-كما فى المغرب-تعمّم بالسحاب وتوشّح بالأنهار العذاب، وقد رزق أبوه به سنة ٦٠١ وكان من أهل العلم، ولذلك سلكه المراكشى بين أساتذته، وذكر منهم على بن جابر الدباج الإشبيلى الذى ظل يتصدر للإقراء بإشبيلية خمسين سنة، كما ذكر مواطن الدبّاج أبا القاسم بن الجد نزيل تونس.
ولم يتتلمذ لهذين العالمين فقط بل تتلمذ أيضا لابن الفخار الشريشى ولابن زرقون الغرناطى. ويذكر ابن الخطيب عن ابن الزبير صاحب كتاب صلة الصلة أنه تتلمذ له، وكل ذلك يدل على نهم فى طلب العلوم والآداب، واتضح ذلك فى جانبين عنده هما التأليف ونظم الشعر، أما التأليف فله فيه كتاب:«روضة الأنس ونزهة النفس» ويبدو أنه كان كتاب محاضرات وطرف أدبية، وسبق أن ذكرنا فى الفصل الثانى أن له أيضا كتاب الوافى فى نظم القوافى، وأن منه مخطوطة بالمكتبة التيمورية، وأنه فى أربعة أجزاء أولها فى فضل الشعر وطبقات الشعراء وعمل الشعر وآدابه وأغراضه، وثانيها فى محاسن الشعر وفنونه البديعية، وثالثها فى الإخلال والسرقة والضرورة، ورابعها فى حد الشعر وعروضه وقوافيه وأخباره تدل بوضوح على صلته الوثيقة بمحمد بن الأحمر مؤسس إمارة غرناطة، وهى صلة جعلته يكثر من مدائحه. وكان له بجانب هذين الكتابين المتصلين بالأدب شعره ونثره كتاب فى علم الفرائض، وهو يدل-كما قال المراكشى-على أنه كان بجانب ثقافته الأدبية «فقيها فرضيا حافظا» أى محدثا ويقول إنه كان متفننا فى معارف جليلة.
ويقول المراكشى إنه «كان خاتمة الأدباء بالأندلس بارع التصرف فى منظوم الكلام ومنثوره» وإنه كتب إليه بإجازة ما رواه وألّفه، ويذكر أن له فى النثر مقامات بديعة فى أغراض شتى، كما يذكر أن كلامه نظما ونثرا مدون، مما يدل على أنه خلف ديوان شعر كان معروفا فى زمنه. وقد طارت شهرة أبى البقاء الرندى شرقا وغربا لقصيدته النونية التى نظمها بعد سقوط مدن الأندلس الكبرى فى يد النصارى: قرطبة وإشبيلية وبلنسية وجيان ومرسية سوى ما فى حيّز كل منها من مدن ومعاقل وحصون مما تنخلع له القلوب والأفئدة أسى وحزنا لهذا المصير المفجع، لا مصير المدن فحسب بل أيضا مصير السكان المسلمين من رجال ونساء وأطفال ووقوعهم أسرى فى أيد لا ترحم، أيد استعبدتهم وأنزلت بهم أهوالا من العذاب لا تطاق. وكأنما ندب أبو البقاء نفسه عن أهل الأندلس يستصرخ المسلمين لنصرة إخوانهم فى الدين وإنقاذهم من يد الكافرين الآثمين، وهو يستهل قصيدته بالحديث عن الدول التى دالت، وكأنما يتأثر فى هذا الجزء من قصيدته بابن