للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

زحام، فأصاخ أبو محمد لمقاله، وتورط بين حبائله وحباله» وأصبح من كتّاب ديوانه، ولا نعرف الأسباب التى جعلت ابن زيدون يغصّ-كما يقول ابن بسام-بمقامه معه فى حضرة المعتضد، إذ أخذ يوغر صدره عليه، ومضت الأيام. وشعر أبو محمد بتغير المعتضد عليه، وكان سفاكا للدماء، فأخذ فى اقتناء الضياع والديار حتى يوهمه بأنه لن يفارق عمله عنده، ويبدو أنه أرسل إلى أبيه يطلعه على موقف ابن زيدون وزير المعتضد-وموقف المعتضد نفسه منه-وأنه يخشى مغبة مكثه عنده، فربما فتك به كما فتك بكثرين. وكان أبوه قد استوطن دانية وطاب له المقام عند أميرها مجاهد، فخفّ إلى المعتضد، وخلصه من يديه، وانصرف به محفوفا بالتجلة والإكرام، يقول ابن بسام: «وجعل أبو محمد بن عبد البر بعد نجاته من المعتضد يتنقل فى الدول كالبدر يترك منزلا إلى منزل. . وكتب عندنا عن أكثر ملوك الطوائف» وأكبر الظن أن ابن بسام بالغ فى قوله إنه تنقل بين ملوك الطوائف وكتب عند أكثرهم، فإنه هو نفسه لم يرو له رسائل ديوانيه إلا عن المعتضد وعلى بن مجاهد أمير دانية بعد أبيه مجاهد (٤٣٦ - ٤٦٧ هـ‍) وكأنه صحب أباه إلى دانية، فوظفه على بن مجاهد رئيسا لديوانه وكتّابه، وظل يعمل فيه، حتى توفى سنة ٤٥٨ وحزن أبوه لفقده، ولعل ذلك ما جعله يتحول عن دانية إلى شاطبة، شرقيها، وبها توفى. وقد أورد ابن بسام لأبى محمد رسائل ديوانية كثيرة عن المعتضد وعلى بن مجاهد، ومن أطرفها رسالة عن ابن مجاهد وقد زفّ ابنته إلى المعتصم بن صمادح أمير المرية، وفيها يقول:

«أنفذت الهديّة (العروس). . وأنا أسأل الله فى متوجّهها ومنقلبها الرعاية الموصولة بك، والكفاية المعهودة منك، حتى يفئ (١) عليها ظلّك، ويبوّئها (٢) مثوى الحفاوة محلّك، ويحميها حوزك ومكانك، ويؤويها عزّك وسلطانك، ثم حسبى عليها كرمك وكنفك (٣)، وخليفتى عليها برّك ولطفك. . وإنك-والله يبقيك ويعليك، ويشدّ (٤) قبضتك على رقاب أمانيك وأراجيك-ذخر الأبد، وعتاد الأهل والإخوان والولد، وعندك ثمرة النفس وفلذة الكبد، فارقتها عن شدة ضنانة، وأسلمتها بعد طول صيانة، وما زفّت إلا إلى كريم يحملها محمل الأمانة، ويقضى فيها حقّ الديانة، ويرعى لها انقطاعها عن أهلها، واغترابها عن ملئها ومنشئها، وهو حكم الله الواجب، وقدره الغالب، وسنّته المشروعة، ومشيئته المتبوعة»


(١) يفئ: ينبسط.
(٢) يبوئها: ينزلها.
(٣) الكنف: الحفظ والجناح.
(٤) يشد: يقوّى ويحكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>