وحدثت فى سنة ٤٥٦ نكبة عظمى، فإن النورمانديين فى الشمال الغربى لفرنسا تجمعوا وتجمعت معهم شراذم من فرنسا وأوربا لحرب المسلمين فى الأندلس، مكوّنين حملة صليبية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إذ باركها البابا إسكندر الثانى، واخترقت الحملة جبال البرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا وحاصرت مدينة وشقة فى أقصى الشمال الشرقى لإسبانيا، ولم تستطع اقتحامها، فاتجهت إلى مدينة بربشتر إلى الشمال الشرقى من سرقسطة، وحاصروها أربعين يوما، واضطر أهلها إلى التسليم لنقص القوت والمئونة، ففتكوا بهم فتكا ذريعا وانتهكوا نساءهم وسبوا عشرات الألوف من غلمانهم وفتياتهم، وحملوا من الكسوة والفرش والأمتعة خمسمائة حمل، كل ذلك والمقتدر أمير سرقسطة قد وكلهم إلى أنفسهم وقعد عن النفير لهم. وزر لا يماثله وزر، وقد شركه فيه أمراء الطوائف جميعا، إذ لم ينهض أحد منهم للدفاع عن بربشتر. ويعلل ابن حيان تلك الكارثة بعلتين: علة صمت الفقهاء لأكلهم على موائد هؤلاء الأمراء وتقية وخوفا منهم، والعلة الثانية، وهى الأفدح، أن الأمراء استناموا إلى التنابذ والتنافر، ويسميهم «أمراء الفرقة الهمل» ويعجب أن لا تنبّههم هذه اللطمة الضخمة إلى جمع الكلمة ووقوفهم صفا واحدا ضد العدو الكاشر عن أنيابه، وأن يكون كل ما دفعتهم إليه حفر الخنادق حول مدنهم وتعلية الأسوار وتوثيق البنيان. وأطارت النكبة أفئدة المسلمين فى الأندلس وتزلزلت بهم الأرض، وتجمعوا فى السنة التالية بقيادة المقتدر بن هود أمير سرقسطة وكأنما أراد أن يغسل عنه عار نكوله عن إغاثة أهل بربشتر، وسرعان ما أجيل السيف فى النصارى المعتدين واستؤصلوا أجمعين وردّت بربشتر إلى المسلمين فغسلوها من رجس الشرك-كما يقول ابن حيان-وجلوها من صدأ الإفك (١).
وإنما قدمنا كل ذلك لتتضح لنا صرخة ضخمة وجّهها أبو محمد بن عبد البر فى شكل منشور وزّع فى كل مدن الأندلس، مما دفع أهل الجهاد فى كل مكان منها إلى حمل سلاحهم واستردادها سريعا هذا الاسترداد المشرف، وقد جعل المنشور على لسان أهل بربشتر وعنوانه-كما يقول ابن بسام-:
«من الثّغور القاصية، والأطراف النائية، المعتقدين للتوحيد، المعترفين بالوعد والوعيد، المستمسكين بعروة الدين، المستهلكين فى حماية المسلمين، المعتصمين بعصمة الإسلام، المتآلفين على الصلاة والصيام، المؤمنين بالتنزيل، المقيمين على سنّة
(١) انظر فى تصوير ابن حيان لموقعة بربشتر الذخيرة ٣/ ١٧٩.