للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يلقى فى تلك البساتين معمرا (١) وعلى تلك الغصون حبّا وثمرا، وأنت بجميل تأتّيك، وكرم معاليك، تصنع له هنالك وكونا (٢)، وتستمع من نغم شكره على ذلك أغاريد ولحونا، دون أن يلتقط فى فنائك حبّة، أو يسترط (٣) من مائك نغبة (٤)».

وطارت الرسالة فى الأندلس وحاول غير أديب محاكاتها لما فيها من دعابة مستملحة، إذ صور سراج ما كان فيه هذا الشخص من ضيق جعله يلتمس منه الشفاعة لصاحبه بالزرزور حين ينحسر عنه ريشه العتيق ولا يبقى له إلا الريش القصير، حتى إذا كثر ريشه صمم على القطوع أو الرحيل آملا أن ينزل على أفق هذا الجواد ويجد عنده منزلا وحبّا وثمرا ووكونا أو عشوشا يأوى إليها متغنيا بالثناء عليه. وينصحه أن لا يجد فى فنائه حبّة يلتقطها ولا جرعة ماء تبلّ ريقه. وممن حاول محاكاة سراج بن عبد الملك فى هذه الدعابة الطريفة أبو بكر عبد (٥) العزيز بن القبطورنة كاتب على بن يوسف بن تاشفين المتوفى حوالى سنة ٥٢٠ للهجرة، ومن قوله فى رسالته (٦):

«يصل بكتابى-وصل الله سعودك-من الطير نطّاق، من غير ذوات الأطواق (٧). .

مهّدته العذارى الحجور، وألحفته الشعور، وربّته بين التّرائب والنّحور، وعلّلته بالرّضاب (٨)، وسقته بأفواهها العذاب، أقام عندنا زمانا، لا يتألف إلا رندا (٩) أو بانا، يتدرّج فى البساتين، يتطلب العنب المنتقى والتّين، فذكرت له يوما والحديث ذو شجون، أرضك الميثاء (١٠) ذات الشجر والعيون، فصفّق جناحا، واهتزّ ارتياحا، وسألنى إلى مجدك كتابا فأنلته ما ابتغى، وقلت: سلمت أخا الببّغا، وبلّغت المدى، وجنّبت من حزّة المدى (١١) وأخذ الكتاب بمنقار، وصفّق بريش الجناحين سرورا وطار، وأنت بسيادتك تبسط له فى بساتينك، وتفرش له من وردك وياسمينك»

وكان يعاصر ابن القبطورنة أبا القاسم بن الجد، وسنخصه بكلمة، وعاصرهما ابن عبدون الشاعر الفذ الذى ترجمنا له بين شعراء الرثاء، وقد عمل فى دواوين المتوكل


(١) معمرا: منزلا.
(٢) وكونا جمع وكن: عش الطائر.
(٣) يسترط: يبتلع.
(٤) نغبة: جرعة.
(٥) راجع ترجمته فى الذخيرة ٢/ ٧٥٣ والمغرب ١/ ٣٦٧ والتكملة رقم ١٧٤٣ والقلائد ١٤٨.
(٦) الذخيرة ٢/ ٧٥٨.
(٧) ذوات الأطواق: الحمام.
(٨) الرضاب: الريق المرشوف والعسل.
(٩) الرند: شجر طيب الرائحة. البان: شجر يشبّه به الحسان فى الطول واللين.
(١٠) الميثاء: اللينة الطيبة.
(١١) المدى، جمع مدية: السكين.

<<  <  ج: ص:  >  >>