للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يربأ بقدر الذخيرة عن مثل هذه النتف الأخيرة، ويعتذر بأنه يخط ما خطه من هذا الشعر فى ليلة قاسية البرد، ويمضى فى تصويرها قائلا (١):

«إنى خططت والنوم مغازل، والقرّ منازل، والرّيح تلعب بالسّراج، وتصول عليه صولة الحجّاج (٢)، فطورا تسدّده سنانا، وتارة تحرّكه لسانا، وآونة تطويه حبابة (٣)، وأخرى تنشره ذؤابة، وتقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب، أو حمة (٤) عقرب، وتقوّسه حاجب فتاة، ذات غمزات، وتستلّ روحه من ذباله، وتعيده إلى حاله، وربما نصبته أذن جواد أو مسخته حدق (٥) جراد. . فلا حظّ منه للعين، ولا هداية فى الطّرس لليدين، والليل زنجىّ (٦) الأديم تبرىّ (٧) النجوم، قد جللّلنا ساجه (٨)، وأغرقتنا أمواجه، ولو نظرت فيه الزرقاء (٩) لاكتحلت، أو خضبت به الشّبيبة لما نصلت (١٠)، والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه، (١١) والتوى التواء الحباب (١٢)، واستدار استدارة الحباب، وجلده الجليد، وضربه الضّريب (١٣)، وصعّد أنفاسه الصّعيد، (١٤) فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح، والنار كالصديق أو كالرّحيق (١٥)، كلاهما عنقاء مغرب (١٦)، أو نجم مغرّب».

والرسالة وصف شعرى بديع لهذه الليلة من ليالى الشتاء الباردة بردا شديدا فى الأندلس والرياح تقصف، والليل داج معتم، والسراج تقبضه الريح وتبسطه، وقد يضيئ ويستعرض، وقد يتضاءل حتى يصبح إبرة أو برة، وقد يستطيل حتى كأنه سنان أو لسان، وقد يتقوس حتى كأنه حاجب أو يتلوّى كأنه عقرب. ويستمر ابن أبى الخصال فى وصف الليلة الباردة وما أضفى عليها من أخيلته الرائعة. وليستتم صورة بردها الشديد وصف كلبا مقرورا مدّ عليه الثلج رواقه، حتى لم يعد يبصر طنب بيته والتف ذنبه على خيشومه


(١) الذخيرة ٣/ ٧٩٢.
(٢) يريد الحجاج الثقفى وفتكاته بأعدائه.
(٣) حبابة: فقاعة الماء.
(٤) البرة: الحلقة توضع فى أنف البعير، وبها شبّه الكاتب لسان الشمعة. حمة العقرب: إبرته.
(٥) أذن جواد أى مستعرضا مثلها. حدق جراد أى ضئيلا كنقطة مداد.
(٦) زنجى الأديم: أسود الجلد.
(٧) تبرى: ذهبى.
(٨) جللنا: غطانا. الساج: شجر خشبه شديد السواد.
(٩) زرقاء اليمامة: اشتهرت بحدة نظرها.
(١٠) نصلت: بهتت.
(١١) الطنب: الحبال تشد بها الخيمة والخباء.
(١٢) الحباب بالضم: الأفعى. وبالفتح: فقاقيع الماء.
(١٣) الضريب: الثلج.
(١٤) الصعيد: وجه الأرض.
(١٥) الرحيق: الصافى من الخمر والشراب.
(١٦) عنقاء مغرب: طائر خرافى.

<<  <  ج: ص:  >  >>