للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ينبرون فى الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قسّ وخطبته بسوق عكاظ. وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظّرب وأكثم بن صيفى. وكان من عادتهم فى الزواج، وخاصة زواج أشرافهم وأبنائهم أن يتقدم عن الخاطب سيد من عشيرته، يخطب باسمه الفتاة التى يريد الاقتران بها، وخطبة أبى طالب للسيدة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورة. ويقول الجاحظ: «كانت خطبة قريش فى الجاهلية-يعنى خطبة النساء-: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت» (١). ويقول كان من عادة العرب فى هذه الخطبة أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب (٢). ويتحدث عن خطابتهم عامة فيقول: «اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويا فى الجودة ومتشاكلا فى استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان والنّتف الجياد. . ووجدنا عدد القصار أكثر ورواة العلم إلى حفظها أسرع (٣)».

وليس كل ما يدل على ازدهار الخطابة فى الجاهلية ما رأيناه آنفا من تعدد أنواعها وخوضها فى أغراض مختلفة من المصاهرة أو الوفادة على الأمراء أو النصح والإرشاد أو الدعوة إلى الحرب أو الكفّ عن القتال أو فى المنافرات والمفاخرات، فقد استقر فى نفوس العباسيين وعلى رأسهم الجاحظ أنهم كانوا يكثرون من الخطب وأن قبيلة من القبائل بل عشيرة من العشائر لم تكن تخلو من خطيب، وهو يسوق فى البيان والتبيين أثباتا طويلة بأسمائهم ومواقفهم موردا من حين إلى حين فقرا وشظايا من أقوالهم. ولعل من الخير أن نعرض أطرافا من ذلك، حتى تتضح لنا هذه النهضة الخطابية عندهم من بعض وجوهها، وخاصة أننا لا نطمئن إلى ما يروى لهم فى كتب الأدب والتاريخ من خطب، ومن ثم سنعمد عمدا إلى سرد أسماء خطبائهم من جهة وإنشاد بعض الأشعار التى تصور بيانهم وبراعتهم فى هذا اللون من ألوان نثرهم، لما هو معروف من أن الشعر يمكن أن ينقل عن طريق الرواية آمادا من الأزمنة بفضل ما فيه من موسيقى تحفظه من الاضطراب على ألسنة الرواة


(١) البيان والتبيين ١/ ٤٠٨.
(٢) البيان والتبيين ١/ ١١٦.
(٣) البيان والتبيين ٢/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>