للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خيالى نوم، ودنوت حتى هممت بالسلام، وقد كان من خدع الأحلام. . وما كان على الأيام لو غفلت قليلا، حتى أشفى بلقائك غليلا. . ولئن أقعدتنى بعوائقها عن لقاء حر، وقضاء برّ فما تحيّفت (تنقصت) ودادى، ولا ارتشفت مدادى، ولا غاضت (نقصت) كلامى، ولا أحفت (استأصلت) أقلامى، وفى الكتاب بلغة الوطر، ويستدلّ على العين بالأثر. . وإن فرغت للمراجعة ولو بحرف، أو لمحة طرف، وصلت صديقا، وبللت ريقا، وأسديت يدا، وشفيت صدى (عطشا)، لا زالت أياديك بيضا، وجاهك عريضا، ولياليك أسحارا، ومساعيك أنوارا».

ويبدو أنه كتب لابن القصيرة هذه الرسالة حين كان يتولى ديوان الإنشاء بمراكش للمرابطين، وقد تولاه منذ سنة ٤٨٧ كما أسلفنا حتى وفاته سنة ٥٠٨ ونراه فيها يشير -من طرف خفى-إلى تمنيه أن يستدعيه صديقه للعمل معه فى ذلك الديوان، ولا تخفى سطور الرسالة مراده وأنه يأمل لو ردّ عليه بكتاب يحقق له أمنيته. وقد صاغ الرسالة صياغة بديعة، مع لطف الأخيلة ودقة المعانى ومع حسن الأداء. ولا نلبث أن نقرأ له رسالة فى وصف مطر بعد جدب شديد، وفيها يقول:

«لما استرابت حياض الوهاد، بعهود العهاد (١)، وتأهّبت رياض النّجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد (٢) النّقع المثار، وتعطّلت الأنوار، من حلىّ الدّيمة المدرار، أرسل الله تعالى بين يدى رحمته ريحا بليلة الجناح، سريعة الإلقاح، فنظمت عقود السّحاب، نظم السّخاب (٣)، ولم تلبث أن انهتك رواقها (٤)، وانبتك (٥) وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكى بأجفان المشتاق، غداة الفراق، فاستغربت (٦) الرياض ضحكا ببكائها، واهتزّت رفات (٧) النّبات طربا لتغريد مكّائها (٨)، فيا برد موقعها على القلوب والأكباد، ويا خلوص ريّها إلى غلل النفوس الصّواد (٩)، كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشّفت رضابا (١٠) من الثّنايا العذاب، أو تحمّلت ماء الوصال، أو


(١) العهاد: المطر.
(٢) إثمد: كحل. النقع: الغبار.
(٣) السخاب: القلادة من الأزهار.
(٤) الرواق: مقدم البيت
(٥) انبتك: انقطع
(٦) استغرب فى الضحك: بالغ فيه
(٧) رفات: حطام
(٨) المكاء: طائر له تغريد حسن
(٩) ريها: شربها حتى الامتلاء. الغلل: جمع غلة: شدة العطش الصوادى. العطشى.
(١٠) الرضاب: الريق المرشوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>