للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر، وتوقّد قبس، وتردّد نفس».

ولعل صوت ابن الجد اتضح، فهو صوت يفيض بألحان عذبة يأخذ بعضها بتلابيب بعض لما تتميز به من عذوبة ورشاقة، وهو صوت يتخايل أو يتجسد فى تصاوير متتابعة، فيمتع النفس بنغماته وأخيلته البديعة. وله من رسالة يخطب فيها وداد أديب وأخوّته:

«إن كانت المداخلة بيننا لم يفتح لها باب، ولا علقت بها أسباب، ولا رمى لنا فى محصّبها (١) جمار، ولا عطف بنا نحو كعبتها اعتمار، فقد جمعتنا فى معرّف (٢) المعرفة معارف، وضمّتنا من معالم العلم معاهد ومآلف، ووشجت (٣) بيننا من أواصر الأدب أنساب، وضربت علينا فى مدارج الطلب قباب، ولا غرو من تدانى القلوب على تنائى الديار، وائتلاف النفوس مع اختلاف النجار (٤)، فربما ألّف تشاكل الشيم والأخلاق، بين مستوطن الشام وساكن العراق. على أنى لا أدعى رتبتك فى فنون العلم والآداب، ومن يضاهى محل الفرقد (٥)، بمنبت الغرقد، لكنى وإن لم أعدّ فى رعيلك، فعندى من بضائع الكلم ما ينفق فى سوقك، بقيت حلية للدهر فائقة، وغرّة فى وجد الزمن رائقة».

وعذوبة الكلم وحلاوة الصوت وسلاسة الجرس ونعومته، كل ذلك تغرق الآذان فى أنغامه مع ما يسوق من أطياف وخيالات رائعة. وكان فيه ميل إلى الدعابة، مما جعله يعارض أبا الحسين بن سراج فى رقعته التى مرت بنا والتى شفع فيها عند بعض ذوى الجاه والثراء لرجل يسمى الزريزير مستعيرا له بعض الصفات المتصلة بالطيور كالريش والعش والشّكير والتحسير، وعلى غرار رقعة ابن سراج يقول فى رقعته:

«لئن سمّى بالزّريزير، لقد صغّر للتّكبير، ولما طار ببلاد الغرب ووقع، وزقا فى أكنافها وصقع (٦)، وعاين ما اتفق فيها هذا العام من عدم الزيتون، فى تلك البطون، والمتون، ولم يجد بها قرارا، أزمع عنها فرارا. واستخفّه هائج التذكار، نحو تلك الأوكار،


(١) المحصب: موضع رمى الجمار بمنى.
(٢) المعرف: الموقف بعرفات، والاستعارة واضحة.
(٣) وشجت: تشابكت.
(٤) النجار: الأصل والحسي.
(٥) الفرقد: النجم القطبى: الغرقد شجر قصير فروعه شائكة.
(٦) زقا: صاح. صقع: ذهب فى كل وجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>