للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموروث عن أبيه ثراء واسعا، واصطفاه المنصور بن أبى عامر لنفسه مستشارا وجليسا.

ونقل سكناه إلى جواره. وكان قد رزق بابنه أحمد سنة ٣٨٢ فنشأ فى نعيم نشأة مترفة وضاعف ترفها رعاية ابن أبى عامر وحظياته له، فكان لا يزال يغدو ويروح إلى قصوره مختلطا بأحفاده. وعنى أبوه بتربيته. ومنذ نعومة أظفاره كان عنده نهم للأدب والمعارف، يقول فى فواتح رسالة: التوابع والزوابع: «كنت أيام كتّاب الهجاء أحن إلى الأدباء وأصبو إلى تأليف الكلام. فابتعت الدواوين وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لى عرق الفهم، ودرّ لى شريان العلم. . فطعنت ثغرة البيان دراكا، وأعلقت رجل طيره أشراكا، فانثالت لى العجائب وانهالت علىّ الرغائب». ويضيف إلى ذلك فى إحدى رسائله أنه درس ضروب العلم المختلفة من أدب وخبر وفقه وطب وكيمياء وحكمة. وبينما هو غارق فى النعيم وفى تثقيف نفسه إذ النكبة تحل بأسرة ابن أبى عامر سنة ٣٩٩ وكان قد توفى منذ سبع سنوات. وولى الحجابة المظفر ابنه فسعدت الأندلس والرعية به، غير أن القدر لم يمهله، فتوفى سنة ٣٩٩ وخلفه أخوه الناصر عبد الرحمن وكان نحسا على نفسه وانهمك فى الشرب والزندقة والطعن فى الدين الحنيف، فقتل سريعا. وانفتح باب الفتنة التى قضت على الدولة الأموية ودمّرت فيها قرطبة وأحرقت المدينتان المحدثتان بجوارها: الزهراء والزاهرة، وسفكت الدماء بقرطبة وظلت تنزف طويلا. وترك ذلك آثارا عميقة فى نفس ابن شهيد فقد اندكّت صروح آماله ومطامحه، وداخله أسى عميق لما نزل بمدينته وبأسرة بنى أبى عامر، ولما رأى فى أثناء ذلك من انتهاك القيم واختلال الموازين، فأكبّ على كئوس الخمر واللذات يغرق فيها همومه محاولا أن ينساها أو يتسلى عنها، وأنّى له، إذ كانت تتجدد كل يوم، فكيف يحتمل الحياة إنه ليس أمامه إلا أن يسرف على نفسه فى الخمر وما يتصل بها من اللذات، لعلها تخفف عنه محنته وما يطبق عليه من أحزان.

وتصادف أن أصابه الصمم مبكرا، فتضاعف حزنه وهمه، وتضاعف إقباله على الخمر والمجون حتى ليقول ابن حيان: «غلبت عليه البطالة فلم يحفل فى آثارها بضياع دين ولا مروءة حتى أسقط شرفه ولم يقصر عن ارتكاب قبيحة» ويقول ابن بسام: «كان بقرطبة فى رقته وبراعته وظرفه خليعها المنهمك فى بطالته وأحطّ الناس فى هوى نفسه وأهتكهم لعرضه وأجرأهم على خالقه». وكان الشعر قد انثال على لسانه مبكرا، كما أخذت تظهر مخايل نبوغه الأدبى، وسرعان ما أصبحت داره منتدى لأترابه من الشباب القرطبيين المتأدبين أمثال ابن حزم وابن عمه أبى المغيرة عبد الوهاب وابن برد الأصغر وأبى عامر بن المظفر بن أبى عامر وابن عمه المؤتمن عبد العزيز. ويقدم غير مدحة

<<  <  ج: ص:  >  >>