السراج تضيئ للناس وهى تحترق وتلفظ أنفاسها الأخيرة. وتعزّ على ابن زيدون نفسه، فيقول إنه لن يصبر على الذل والهوان، ويقول إن الأدب خير وطن للأديب وإنه لا يجفى فى أى مكان ينزل به فأينما توجّه ورد أعذب منهل وضوحك قبل إنزال رحله، وأعطى حكم الصبى على أهله. وكأنه يلمّح بأنه سيفارق وطنه قرطبة إلى من يعرف له حقه ويقدر أدبه. وتهدأ نفسه فيعود إلى صوابه، ويعلن محبته لوطنه وأنه لا يؤثر عليه أى وطن كما لا يؤثر على أبى الحزم جهور أى أمير، ويأخذ فى استعطافه حتى يعفو عنه ويصفح عن زلته، يقول:
«إن الوطن محبوب، والمنشأ مألوف، واللبيب يحنّ إلى وطنه حنين النّجيب (البعير) إلى عطنه (مبركه) والكريم لا يجفو أرضا فيها قوابله (داياته) ولا ينسى بلدا فيها مراضعه. هذا إلى مغالاتى بعقد جوارك، ومنافستى فى الحظّ من قربك، واعتقادى أن الطمع فى غيرك طبع (دناءة) والغنى من سواك عناء، والبدل منك عوز (فاقة) والعوض لفاء (خسّة). وما هذه البراءة ممن يتولاّك؟ والميل عمّن لا يميل عنك، وهلاّ كان هواك فيمن هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك».
ويظل ابن زيدون إلى نهاية الرسالة يستعطف أبا الحزم جهورا كى يرد إليه حريته، ويضيف إليها قصيدة استعطاف بديعة، ويختمها بقوله لجهور:«هب ذنبا لحرمة، واشفع نعمة بنعمة، ليتأتّى لك الإحسان من جهاته، وتسلك إلى الفضل من طرقاته». والرسالة تكتظ بالأمثال وبالأحداث التاريخية فى عهود الرسل وفى الإسلام، كما تكتظ باقتباسات من القرآن الكريم والأشعار مع حلّ كثير منها، ومع رهافة الشعور ودقة الحسّ وصفاء الذوق فى انتخاب ذلك كله وفى اختيار الألفاظ والتنسيق بينها تنسيقا بديعا. ولكثرة ما فى الرسالة من أمثال العرب ووقائع التاريخ والأشعار احتاجت إلى الشرح وشرحها الصفدى، وسمى شرحه «تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون» وواضح من كلمة المتون التى اختارها اسما لكتابه أنه شعر أن الرسالة تشبه المتون لكثرة ما فيها من الأمثال وغير الأمثال، مما يحتاج إلى تفسير وفضل بيان، وهى-كأختها السالفة-آية بديعة من آيات النثر الأندلسى.