للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وربما كان من أسباب ذلك أن الشاعر-إذ استثنينا زهيرا-كان هو الذى يهيج النفوس للحرب بما يدعو للأخذ بالثأر، أما الخطيب فكان غالبا يدعو إلى السلم وان تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، وكثيرا ما يقف من قومه موقف الناصح الأمين يهديهم ويرشدهم، أما الشاعر فأكثر مواقفه هجاء وتنابذ بالألقاب والأحساب والمآثر والمعايب.

وقد تعارف خطباؤهم على جملة من السنن والتقاليد فى خطابتهم، فكانوا يخطبون على رواحلهم فى الأسواق العظام والمجامع الكبار (١)، وقد لاثوا العمائم على رءوسهم. وفى أثناء خطابتهم كانوا يمسكون بالعصىّ والمخاصر والقضبان والقنا والقسىّ راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض، وأشار إلى ذلك لبيد إذ يقول (٢):

ما إن أهاب إذا السّرادق عمّه ... قرع القسىّ وأرعش الرّعديد

ووقفت الشعوبية طويلا عند عادة خطباء العرب من اتخاذ العصى والمخاصر وردّ عليهم الجاحظ فى بيانه مبينا فوائد العصا، ومن قوله فى تلك العادة: «إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شئ خاص فى خطباء العرب ومقصور عليهم ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون فى حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفا لها وتوقعا لبعض ما يوجب حملها والإشارة بها (٣)»

وكانوا يمدحون فى الخطيب ثبات الجنان وحضور البديهة وقلة التلفت وكثرة الريق وجهارة الصوت وقوته، وكانوا يعيبون فيه التنحنح والارتعاش والحصر والتعثر فى الكلام، يقول النّمر بن تولب (٤):

أعذنى ربّ من حصر وعىّ ... ومن نفس أعالجها علاجا

ويقول أبو العيال الهذلى:

ولا حصر بخطبته ... إذا ما عزّت الخطب

وذموا فى الخطيب أن يكثر من مسّه لذقنه وشوار به ولحيته، وكأنما رأوا فى ذلك


(١) البيان والتبيين ٣/ ٧.
(٢) نفس المصدر ١/ ٣٧٢، ٣/ ٩.
(٣) البيان والتبيين ٣/ ١١٧.
(٤) انظر فى هذا البيت وتاليه البيان والتبيين ١/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>