للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن خطباء إياد قسّ بن ساعدة، وهو الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم: رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت (١). ويقول الجاحظ: «ولإياد خصلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى روى كلام قسّ بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذى رواه لقريش وللعرب، وهو الذى عجّب من حسنه وأظهر من تصويبه.

وهذا إسناد تعجز عنه الأمانى وتنقطع دونه الآمال (٢)». على أن ابن حجراتهم هذا الإسناد (٣)، وخاصة بعد توسّع الرواة فى خطبة قس وتحميلهم لها إشارات بقرب مبعث الرسول عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن لها أصلا صحيحا تزيد فيه الرواة.

وواضح أن هذه كثرة من الخطباء الجاهليين، إن لم يصح ما أثر عنهم من خطب فإن من المحقق أنهم خطبوا كثيرا فى أقوامهم وقبائلهم وإلا ما اشتهروا بالبراعة فى هذا اللون من ألوان اللّسن والبيان. وكان مما بعثهم على إحسانه حاجتهم إليه فى مواطن ومواقف عدة، وكان قلما يرتفع نجم سيد من سادتهم إلا والخطابة صفة من صفاته وسجية من سجاياه، حتى تساق له القلوب بأزمتها وتجمع له النفوس المختلفة من أقطارها. وكل شئ يؤكد أن منزلة الخطيب عندهم كانت فوق منزلة الشاعر، فهى قرين السؤدد والشرف والرياسة، يقول أبو عمرو بن العلاء: «كان الشاعر فى الجاهلية يقدّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذى يقيّد عليهم مآثرهم، ويفخّم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم، ويخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر (٤)». وعلى هدى هذا القول مضى الجاحظ يقول: «كان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر (٥)».


(١) البيان والتبيين ١/ ٣٠٨.
(٢) نفس المصدر ١/ ٥٢.
(٣) السيرة الحلبية (طبعة مصر) ١/ ٢١٠ وقارن باللآلئ المصنوعة للسيوطى ١/ ٩٥.
(٤) البيان والتبيين ١/ ٢٤١.
(٥) البيان والتبيين ٤/ ٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>