للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن ثيابه حزنا عليها ولا تفتر له دمعة، ويقول إنه لم يطب له عيش بعدها. وكانت أحواله المادية قد تمادت فى السوء بعد وفاة أبيه ففارق قرطبة سنة ٤٠٤ إلى المرية عند حاكمها خيران أحد فتيان المنصور بن أبى عامر، ووشى به إليه فاعتقله أشهرا ثم ردّ إليه حريته فبارح المرية إلى حصن القصر وظل به أشهرا وغادره إلى بلنسية وأميريها مبارك والمظفر من فتيان العامريين، إذ سمع أنهما يشايعان أمويا بايعاه بالخلافة وتلقب بالمرتضى، فأسرع إليهما، ولم يلبث أن زحف معهما بالمرتضى إلى غرناطة للاستيلاء عليها سنة ٤٠٩ والانقضاض منها على قرطبة التى كانت قد أصبحت فى قبضة القاسم بن حمود. ولم يتحقق الحلم، فقد هزم المظفر ومبارك وقتل المرتضى. وعاد ابن حزم إلى قرطبة، ورأى دورهم وأكثر دور الأمويين والعامريين أصبحت أطلالا داثرة فبكاها طويلا، وتفرغ لالتهام العلوم من لغوية ودينية وفلسفية. وفى سنة ٤١٤ تولى زمام الخلافة صديقه المستظهر الأموى فاتخذه وزيرا له مع خدنه ابن شهيد، وسرعان ما يقتل المستظهر بعد نحو شهر ونصف من خلافته، ويعتقل الخليفة الجديد المستكفى ابن حزم فترة، وتردّ إليه سريعا حريته.

وعرف ابن حزم أنه لم يخلق للسياسة، ففارقها إلى غير مآب، وانقضّ على المعارف من كل لون انقضاض الوحش على فريسته، بحيث أصبح أكبر عقل مفكر أهداه عصر أمراء الطوائف إلى الإسلام والعروبة، وفيه يقول ابن حيان: «كان حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب وأدب مع المشاركة فى كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة» ويقول ابن بشكوال فى كتابه الصلة: «كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه فى علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار» ويقول ابنه الفضل: إن مجموع مؤلفاته فى الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنحل والملل والنسب والأدب والرد على معارضيه نحو أربعمائة مجلد فى قريب من ثمانين ألف ورقة. وبدأ حياته مالكيا ثم انتقل إلى مذهب الشافعى فترة ثم تركه فى أوائل الثلاثينيات من عمره إلى مذهب داود الظاهرى، وتنقل فى مدن الأندلس يناضل عنه ويكتب فيه بحيث أصبح إمامه الحقيقى، كما كان يناضل عن الإسلام أرباب الملل من اليهود والنصارى. وتتعدد مؤلفاته تعددا واسعا، منها فى الفقه كتاب الإبطال فى مناقشة الأصول الخمسة عند الشافعية والحنفية وهى القياس والرأى والتعليل والاستحسان والتقليد محاولا نصرة مذهبه الظاهرى، وكتاب الإيصال فى فقه الحديث وفيه يورد أقوال الصحابة والتابعين فى مسائل الفقه مع بيان الحجة لكل رأى،

<<  <  ج: ص:  >  >>