للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النهار ثم تنقّلن إلى قصبة (١) كانت فى دارنا مشرفة على بستان الدار، ويطّلع منها على قرطبة وفحوصها (٢) مفتّحة الأبواب، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب (٣) وأنا بينهن.

وإنى لأذكر أنى كنت أقصد نحو الباب الذى هى فيه، أنسا بقربها، متعرّضا للدنوّ منها، فما هى إلا أن ترانى فى جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره مع لطف الحركة.

فأتعمدّ أنا القصد إلى الباب الذى صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزّوال (٤) إلى غيره. وكانت قد علمت كلفى بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عددا كثيرا، وكن ينتقلن من باب إلى باب بسبب الاطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطّلع من غيرها عليها. واعلم أن قيافة (٥) النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج (٦) فى الآثار. ثم نزلن إلى البستان، فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيداتها فى سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود، وسوّته بخفر وخجل لا عهد لى بمثله، وإن الشئ ليتضاعف حسنه فى عين مستحسنه، ثم اندفعت تغنى بأبيات للعباس بن الأحنف. . ولعمرى لكأن المضراب كان يقع على قلبى، وما نسيت ذلك اليوم، ولا أنساه إلى يوم مفارقتى الدنيا».

ويمضى ابن حزم فيذكر أن خطوب الفتنة الكبرى بقرطبة فرّقت بينه وبين هذه الجارية إلى أن رآها بعد بضع سنوات فى جنازة لبعض أهله باكية نادبة، فأثارت فيه وجدا دفينا وحركت ساكنا وذكّرته عهدا قديما وحبّا تليدا ودهرا ماضيا وجدّدت أحزانه، وما كان نسى، وزاد الشّجا وتوقّدت اللوعة. واضطرّ إلى فراق قرطبة سنة ٤٠٤ فغابت عن بصره نحو خمسة أعوام، وعاد فنزل على بعض أهله فرآها وما كاد يميّزها فقد غاض الحسن وذهبت نضارتها لفقدها الصيانة التى كانت لها فى قصر أبيه وأيام عزّه، ويقول إنه مع ذلك لو أنالته أقلّ وصل وأنست له بعض الأنس لجنّ طربا أو لمات فرحا، غير أن هذا النفار منها هو الذى أتاح له الصبر والسّلوى مع ما ظل يطوى فى نفسه من عذاب حبه وآلامه.

وبمثل هذا التصوير الواقعى القصصى الصريح المرسل فى غير تكلف لسجع أو غير سجع يتحدث ابن حزم عن الحب العذرى العفيف وتجاربه فيه وتجارب معاصريه وما له


(١) قصبة: غرفة أو غرف مشرفة فى الدار.
(٢) فحوص قرطبة: ضواحيها
(٣) شراجيب: قوائم.
(٤) الزوال: التحول.
(٥) القيافة: المعرفة القائمة على التتبع.
(٦) مدلج فى الآثار هنا: متعمق فى تتبع الآثار.

<<  <  ج: ص:  >  >>