للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنصرها الرفيع ويريد به عالم النفوس العلوى قبل حلول النفوس فى الأجساد فى عالم الأرض السفلى. ويحدث هذا الاتصال حين يكون بين النفوس ائتلاف ومشاكلة فيكون الحب، أما إذا كان بينها انفصال وتباين فيكون البغض. والحب بذلك إنما يكون بين النفوس لا بين الأجسام. ويوزع ابن حزم كتابه على ثلاثين بابا، منها عشرة فى أصول الحب وعلاماته وصوره كمن أحب فى النوم أو بالوصف أو من نظرة واحدة أو مع المطاولة أو مع التعريض بالقول أو مع الإشارة بالعين أو بالمراسلة أو بالسفير والرسول. ومنها اثنا عشر بابا فى أعراض الحب المحمود والمذموم، وهى أبواب الصديق المساعد والوصل وطىّ السر والكشف أو الإذاعة والطاعة والمخالفة وحب صفة فى المحبوبة والقناعة والوفاء والغدر والضّنا والموت. ومنها ستة أبواب فى آفات الحب، وهى أبواب العاذل والرقيب والواشى والهجر والبين والسلو، ثم بابان فى قبح المعصية وفضل التعفف. وجميع هذه الأبواب تعرض لا فى كلام نظرى بل من خلال الواقع والتجربة والمشاهدة أو بعبارة أدق من خلال اعترافات صريحة منتهى الصراحة لابن حزم ومعاصريه عن الحب دون أى مواربة أو خجل يحجبان الحقيقة، فالحقيقة دائما مكشوفة كالشمس. وفى تضاعيف ذلك ما لا يكاد يحصى من حقائق النفس فى الحب وترهاتها، مع أشعار لابن حزم تصور تلك الحقائق. وكأنه كان يريد بالكتاب تربية الفتاة والفتى بالأندلس موطنه ليكون حبهما حبّا نقيّا بريئا من كل دنس. ومن اعترافاته عن نفسه فى الحب قوله فى باب السلو:

«وإنى لأخبرك عنى أنى ألفت فى أيام صباى ألفة المحبة جارية نشأت فى دارنا، وكانت فى ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية فى حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، فقيدة الذّام (١)، قليلة الكلام، غضيضة البصر، شديدة الحذر، نقيّة من العيوب، دائمة القطوب (٢)، حلوة الإعراض، مطبوعة الانقباض. . لا تقف المطامع عليها، ولا معرّس (٣) للأمل لديها. .

على أنها كانت تحسن العود إحسانا جيدا، فجنحت إليها، وأحببتها حبّا مفرطا شديدا، فسعيت عامين أو نحوهما-أن تجيبنى بكلمة، وأسمع من فمها لفظة، غير ما يقع فى الحديث الظاهر إلى كل سامع-بأبلغ السعى، فما وصلت إلى شئ من ذلك البتة فلعهدى بمصطنع (٤) كان فى دارنا. . تجمعت فيه دخلتنا (٥) ودخلة أخى: من النساء ونساء فتياننا ومن لاث (٦) بنا من خدمنا ممن يخفّ موضعه ويلطف محله، فلبثن صدرا من


(١) الذام: العيب.
(٢) القطوب: العبوس.
(٣) معرّس: مكان.
(٤) مصطنع: وليمة.
(٥) الدخلة: من يكثر دخولهم على قوم منهم أو ليسوا منهم.
(٦) لاث: اختلط.

<<  <  ج: ص:  >  >>