للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتوقّلون (١) إليهم فيها، ويتسوّرون (٢) عليهم من أعاليها، حتى فتح الله تلك الغيران عليهم، فقتلوا العلوج وسبوا الذّرارى وغنموا الأمتعة، وهدمت حصون الكفرة التى كانت فى تلك الجهة، فلم يبق فيها صخرة قائمة. ثم تنقّل الناصر لدين الله من هذه المحلّة (٣) بعد أن أقام فيها يوما إلى حصن فالجش فأضرمت نارا أرباضه (٤) واستقصيت زروعه ونعمه بالنّسف والاستئصال. . ثم استعزم على الإيغال فى بلد الكفرة والاقتحام لسرواته (٥) والتوصل إلى موضع قرارهم ومجتمع كفارهم ونكايتهم فى عقر (٦) دارهم ومكان أمنهم. . وأمر بتعبئة الكتائب وترتيب المقانب (٧) وشكّ (٨) العسكر. . وارتحل الناصر لدين الله بين أجبل (٩) شامخة، وشواهق منقطعة، والجيوش لا تمرّ بموضع إلا اصطلمته (١٠) ونسفت زروعه، وأفسدت ما لم يستوف أكله وهدمت قراه وحصونه، إلى أن بلغ مدينة بنبلونة التى إليها ينسب الإقليم، فأصابها خالية مقفرة، فدخلها الناصر لدين الله بنفسه وجال فى ساحاتها وأمر بهدم جميع مبانيها وتخريب كنيسة الكفرة المعظّمة وموضع بيعتهم (١١) ومكان منسكهم فجمعت الأيدى عليها، حتى جعلت قاعا صفصفا. (١٢) وتنقل الناصر لدين الله، وكان فى ممرّه فجّ (١٣) ضيق المسالك وعر المجاز. . وتظاهر (١٤) أعداء الله لأهل الساقة (١٥) متسنّمين (١٦) فى جبل شاهق، ملتمسين الفرصة، فنهضت الخيل إليهم سريعا، فكشفتهم وهزمتهم، وقتلت طائفة منهم، فانقشعوا (١٧) مدبرين لائنين لا يلوون ولا يعرّجون، وتقدّم المسلمون بعزّة القهر وسورة (١٨) النصر».

وبهذا الأسلوب الأدبى الخافق بالحيوية البارع فى تصوير المواقع الحربية يمضى ابن حيان فى المقتبس وغيره من كتبه التاريخية، وكأنه يستمد من معين لغوى وأدبى لا ينضب،


(١) يتوقلون إليهم: يأتونهم من الأعالى.
(٢) يتسورون: يتسلقون.
(٣) المحلة: الموضع.
(٤) الأرباض جمع ربض: ما حول الحصن أو المدينة.
(٥) سروات البلاد: أوساطها وأعاليها.
(٦) عقر دارهم: وسطها.
(٧) المقانب جمع مقنب: جماعة الفرسان.
(٨) شك العسكر: حمله للسلاح.
(٩) أجبل: جمع جبل.
(١٠) اصطلمته: استأصلته.
(١١) بيعتهم بكسر الباء: معبدهم.
(١٢) صفصفا: لا نبات فيه.
(١٣) فج: طريق.
(١٤) تظاهر: تجمّع.
(١٥) الساقة: مؤخرة الجيش.
(١٦) متسنمين: محتلين ومختفين.
(١٧) انقشعوا: انسحّبوا وتفرقوا.
(١٨) سورة هنا: مجد.

<<  <  ج: ص:  >  >>