طرابلس من المدن والأوطان وجبى خراجها، وزحف إلى المدينة وحاصرها، واستدعت الدولة العثمانية الوالى سنة ٩٩٧ هـ/١٥٨٨ م لتهدئة الثائرين، وأرسلت أسطولا لفك الحصار عن طرابلس وتعقب الثائر، وسرعان ما فكّ الحصار وهزم يحيى الجبالى وتوغّل فى الصحراء مع الأعراب، وقتل، وانتهت ثورته.
وكانت الدولة العثمانية ترسل مع ولاتها فى الولايات المختلفة التابعة لها حاميات عسكرية من جنودها الانكشارية، وكثرتهم كانت من أطفال البلاد الأوربية النصرانية التى كانت تحاربها أو الولايات التى كانت تدين لها بالولاء، أو من أبناء الشعب الذين رغبوا فى الانضمام إلى هؤلاء الجنود، وكانت تربّيهم تربية عسكرية إسلامية، وتؤلف منهم عددا ضخما فى جيوشها وترسل منهم مع ولاتها حرسا أو حامية كبيرة، وكانت الحامية تنقسم إلى فرق، ولكل فرقة رئيس منها يلقّب بالداى بمعنى ملازم. وما نصل إلى القرن الحادى عشر الهجرى حتى تبرز نزعة قوية فى صفوف حاميات الانكشارية بالولايات العثمانية المختلفة للاستقلال بها وأن يتولاها داياتهم، وفى سنة ١٠٢٠ هـ/١٦١١ م نلتقى بصفر أول داى يحكم طرابلس ويدبّر شئونها، وعنى بالحرب البحرية أو الجهاد البحرى الطرابلسى مما جعل الأسرى المسيحيين يكثرون بطرابلس فى أيامه.
وحكم طرابلس بعده الداى مصطفى الشريف سنة ١٠٣٤ هـ/١٦٢٤ م وفى عهده نشطت البحرية، وعنى بتحسين بعض الحصون، وتولّى طرابلس بعده الداى رمضان، وكان ضعيف الشخصية، وتخلّى عن الحكم سريعا إلى صهره محمد الساقزلى (١٠٤٣ - ١٠٥٩ هـ/ ١٦٣٣ - ١٦٤٩ م) وهو ثالث ولاة طرابلس العثمانيين العظام بعد مراد أغا ودرغوت، وكانت له مثل درغوت شهرة بين أبطال البحر العثمانية، وكان الأسطول الطرابلسى فى عهده يتكوّن من ٢٤ قطعة، وكانت برقة قد دخلت فى طاعة العثمانيين منذ استيلائهم على مصر سنة ٩٢٣ هـ/١٥١٧ م وضمّها محمد الساقزلى إلى ولايته فى طرابلس ونشطت التجارة وحركة العمران فى عهده نشاطا عظيما. وتوفى سنة ١٠٥٩ للهجرة وخلفه عثمان الساقزلى وهو مثل محمد الساقزلى من أهم ولاة ليبيا، وقد طال حكمه لها إلى نحو ثلاث وعشرين سنة، وازدهرت التجارة فى عهده ازدهارا عظيما، كما ازدهر النشاط البحرى، وزار طرابلس لأول عهده العياشى فى رحلته المشهورة إلى الحج، وفيها يشيد بطرابلس ومبانيها وأهلها وكرمهم الفياض وواليها عثمان الساقزلى ويقول إن له نكاية فى العدو، وله مراكب قلّ نظيرها معدّة للجهاد، ويذكر أنه رأى ستة من هذه المراكب أو السفن وهى تخرج لجهاد أعداء الدين، وكانت تحمل نحو ألفى مقاتل خرجت-كما يقول-مجتمعة إرهابا للعدو حين يراها. وكانت تجلب كثيرا من الغنائم والأسرى مما جعل عثمان الساقزلى يبنى لهم سجنا كبيرا كان به نحو تسعين غرفة أو زنزانة بجانب سجنى الداى صفر ومحمد الساقزلى، وجعل بعض القاعات فى قصر درغوت