يحتلها من قديم بدو رحّل يعيشون على رعى الأنعام والأغنام، وهم يربونها للحومها وألبانها وجلودها وأوبارها وشعرها وصوفها. وينوّه البكرى الأندلسى المتوفى سنة ٤٨٧ بكثرة السائمة فى ليبيا ونموها الواسع فى مراعيها، ويقول إن كثرة ذبائح أهل مصر من ليبيا. وكان رعاتها من قبائل البدو الليبية يقتسمون مناطق الرعى بحيث لا يحق لقبيلة أن ترعى ماشيتها فى منطقة قبيلة أخرى دون استئذانها، وإلا شهرت عليها الحرب، بالضبط كما كان يحدث بين القبائل فى نجد بالجزيرة العربية. وكان الجفاف يصيب أحيانا ليبيا، فلا تنزل بها الأمطار التى تعوّدتها، فيعانى أهلها مجاعة شديدة، وربما كان ذلك هو سبب إيقاعهم-أحيانا-بحجاج المغرب والأندلس، بالضبط كما كان يصنع أهل نجد-بسبب ما يعانون من فقر وضنك-بحجاج العراق والشام ومصر، على أنه كان من شيوخ الليبيين فى قفار طرابلس وبرقة من يحمون الحجاج، مما جعل العبدرى يشهد لهم فى رحلته إلى الحج سنة ٦٨٩ للهجرة بأنهم لا يتعرّضون للحجاج بأذى إلا فى الندرة.
وبجانب هذا النشاط الرعوى والزراعى والتجارى الذى كان مصدر معيشة أهل ليبيا طوال الحقب والقرون الماضية كانوا ينشطون من قديم فى الصناعات اليدوية من مثل صناعة الزجاج وآنيته التى مهر فيها الفينيقيون، وصناعة عصر الزيت من الزيتون، وكانت صناعة رائجة فى عصر الرومان، إذ كانوا يعتمدون-إلى حد كبير-على ما يستوردونه منه من طرابلس، وهيّأت الملاحات الكبيرة غربى طرابلس وفى بنغازى لقيام صناعة دبغ الجلود، كما هيأت لطحن الملح وتصديره، واشتهر بأنه لا يحتوى من سلفات الكلسيوم إلا على نسبة واحد فى المائة مما يجعله نوعا جيدا من الملح إلى أقصى غايات الجودة. ويشتهر الجبل الأخضر فى برقة بما ينتج من عسل النحل وشمعه، ويوجد المرمر فى بعض جهات طرابلس وبنغازى وخاصة فى غات، ومنه نوع وردى اللون وآخر ناصع البياض، وقد قامت حول اقتطاعه فى عهد الإغريق والرومان صناعة نشيطة، وبدون ريب أتاحت لهما كثرة هذا المرمر نحت ما شاءوا من التماثيل والمعابد والصهاريج، ولا يزال أطلال كثير منها قائما بليبيا إلى اليوم. وهيأت المراعى الكثيرة فى إقليمى طرابلس وبرقة وما وراءهما من الصحارى لكثرة الأصواف والأوبار المجزوزة من الأغنام والماعز والإبل، مما أتاح لقيام صناعات واسعة من النسيج: نسيج الملابس الرجالية والنسائية والسجاجيد والبسط التى يلائمها أشد الملاءمة الصوف الليبى لخشونته الطبيعية، بينما تلائم أوبار الإبل أقمشة الخيام. ولا ننسى ما كان يتعيش عليه بعض أهل ليبيا على امتداد الساحل الشمالى من صيد الحيتان والأسماك، وعنيت جماعة فى طرابلس وأخرى فى بنغازى بجلب الإسفنج الكثير فى مياههما. وفى كل ذلك ما يوضح كيف أن ليبيا كانت-حتى العصر الحديث-كثيرة الخيرات والطيبات من الرزق.