للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحاول تحفيظ بعض البربر الليبيين القرآن وتعليمهم مبادئ الدين الحنيف والعربية، والفرائض المكتوبة عليهم وينبغى أن يؤدوها على خير وجه، ولم تلبث الكتاتيب أن أسست فى المدن وغير المدن، مما أسرع بأهل ليبيا إلى دخول الدين الحنيف أفواجا بعد أفواج، ومما أسرع بهم إلى التعرب الاختلاط بالعرب والمصاهرة بينهم وبين أسرهم. وأيضا مما أسرع بهم إلى التعرب هجرات مبكرة للقبائل والعشائر العربية نزلت ديارهم، إذ يذكر اليعقوبى المتوفى فى أواخر القرن الثالث الهجرى أنه سكن جبل برقة الشرقى عشائر يمنية من الأزد ولخم وجذام والصّدف وغيرهم وسكن جبل برقة الغربى عشائر من غسان والأزد وتجيب، ونزلت الرمادة عشائر من بنى مدلج وبلىّ وجهينة، ونزلت ودّان فى الهضبة جنوبى طرابلس عشائر سهمية وحضرمية، وكل ذلك عمل على المزج بين العرب والليبيين، ولا نكاد نصل إلى منتصف القرن الخامس الهجرى حتى يحدث طوفان الهجرة الأعرابية الكبرى لبنى سليم وبنى هلال من صعيد مصر إلى ليبيا والديار المغربية على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، ونزلت أمواج بنى سليم-وخاصة بنى قرة منهم-فى برقة، وتغلغلت أسراب منها فى ليبيا إلى إقليم طرابلس فى الغرب، ومعها عشائر من بنى هلال. وأعد هذا الطوفان الأعرابى الكبير ليبيا ليتكامل تعربها، إذ انصهر البربر بها فى الأعراب، وأصبحوا معا شعبا عربيا كبيرا فى تقاليده وعاداته وتناول حياته اليومية وفى أزيائه وملابسه وطعامه وفى أحزانه وأتراحه وفى أفراحه وأعراسه، وتعرّبوا أيضا فى الأخلاق والشّيم الكريمة من المروءة والنجدة والفروسية، ولم تتعرب برقة وحدها هذا التعرب الواسع فى جميع مناحى الحياة، بل تعربت أيضا طرابلس وسكان إقليمها من أفراد قبيلة هوارة البربرية، ويشهد بذلك ابن خلدون قائلا عنهم فى الجزء السادس من تاريخه: «إنهم صاروا فى عداد الناجعة من عرب بنى سليم فى اللغة والزّىّ وسكنى الخيام وركوب الخيل والإبل وممارسة الحروب وإيلاف الرحلتين فى الشتاء والصيف فى تلالهم، قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها فصاحة العرب فلا يكاد يفرّق بينهم» ويشهد ابن خلدون نفس الشهادة لبنى يفرن فى جبل نفوسة قائلا: «إنهم تبدّوا مع بنى سليم، ونسوا رطانة الأعاجم وتكلّموا بلغات العرب، وتحلّوا بشعارهم فى جميع أحوالهم». واتسع هذا الشعور بالعروبة بين البربر، فإذا هم ينسبون أنفسهم إلى القبائل العربية شمالا وجنوبا، وكانت هوارة تنسب نفسها إلى اليمن كما يقول اليعقوبى. وبذلك لا نبالغ إذا قلنا إن بربر ليبيا تحوّلوا شعبا عربيّا تامّا منذ نزل بديارهم بنو سليم وبعض عشائر من بنى هلال، فقد أصبحوا عربا دينا إذ اعتنقوا الدين الحنيف، وعربا أسلوب حياة وعادات وتقاليد، وعربا زيا وملبسا ومطعما، وعربا لغة، كما لاحظ ابن خلدون.

ويبدو أن انتصار العربية على اللغة الوطنية المغربية فى ليبيا وغيرها من بلدان المغرب كان حاسما منذ اعتناق البربر للدين الحنيف، وكانوا يسمون لغتهم-كما يقول الحسن الوزان- آوال أمازيغ أى اللغة النبيلة، وسماها العرب اللغة البربرية، وكانت لهجات شتى. وفى العصر

<<  <  ج: ص:  >  >>