للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحديث اكتشفت نقوش فى إقليمى تونس والجزائر وفى الصحراء الكبرى تدل على أن البربر عرفوا الكتابة، غير أنه لم يؤثر عنهم أى كتاب دينى ولا أدبى ولا عملى زراعى مثلا، ومعنى ذلك أن البربرية لم يكن لها تراث تستطيع أن تلقى به العربية، بحيث يمكن أن يحدث صراع بينها وبين العربية، ومن أجل ذلك لم تقاوم العربية أى مقاومة، بل سرعان ما قهرتها واحتلت ألسنة أهلها وأصبحت لغة الحياة فى ليبيا وغيرها من البلدان المغربية. ولكن هل حدث فيها ما حدث مثلا فى مصر من حدوث تحريفات فى الكلم العربية أهّل لظهور اللغات العامية. وكلام ابن خلدون عن هوارة سكان إقليم طرابلس وبنى يفرن سكان جبل نفوسة يدل على أنه لم تشع فى ألسنتهم عامية مستحدثة، إذ قال إنهم استبدلوا من رطانة البربر فصاحة العرب، مما يؤكد أن الفصحى شاعت فى ليبيا وظلت فى ألسنة أهلها طويلا.

وإذا كان ابن خلدون شهد لأهل طرابلس من هوارة ولبنى يفرن فى نفوسة بأنهم لم يكونوا يقلّون فصاحة عن بنى سليم فإن العبدرىّ الرحّالة المغربى يشهد لبرقة-حين مرّ بأحيائها فى رحلته سنة ٦٨٨ - بفصاحة أهلها فصاحة تامة، إذ يقول:

«كلام عرب برقة من أفصح كلام عربى سمعناه، وعرب الحجاز أيضا فصحاء، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم، فلم يختلط كلامهم بغيره، وهم الآن على عربيتهم، لم يفسد من كلامهم إلا القليل، ولا يخلّون من الإعراب إلا بما لا قدر له بالإضافة إلى ما يعربون. وقد سألت بدويا لقيته يسقى إبله فى «الحصوى» على ماء يقال له أبو شمال: هل نورد على أبو شمال، وذكرته بالواو فى موضع الخفض على عادة أهل المغرب، فقال لى: نعم تطئون أبا شمال، وأثبت النون فى الفعل ونصب المفعول. وليس فى المغرب عربى ولا حضرى يفعل ذلك. ومررنا بأطفال منهم يلعبون، فقال لنا واحد منهم: يا حجاج معكم شئ تبيعونه، وأثبت النون وسكّن الهاء للوقف. ورأيت أعرابيا منهم قد ألّحت عليه امرأة تسأله (شيئا) من طعام يأكله. فقال لها: والله ما تذوقينه، فأتى بضمير المخاطبة على وجهه، وأثبت النون وسكّن الهاء.

وسمعت شخصا ينشد فى الركب مكترى راحلة، ويقول: من يكرى زاملة، فسمعه بدوى، فقال له: أعندك الزاملة؟ فقال: نعم: فلا تقل من يكرى وقل: من يستكرى. وذكر لى بعض أصحابنا ممن حجّ معنا أن شخصا شرب من بئر، فقال: فى هذا الماء رائحة الحبل، وحرّك الباء بالفتح على لغة أهل المغرب يعنى الرّشاء المستسقى به، فسمعه أعرابى، فقال له: ومن أين جاءت رائحة الحبل إلى الماء، فأشار المغربى إلى الرّشاء، فقال له الأعرابى، قل الحبل ولا تقل الحبل. وأما نادر ألفاظ اللغة وما جرت عادة أهل المغرب بتفسيره فهم-حتى الآن- يتحاورون به على سجيّتهم، فمن ذلك أن شخصا منهم وقف علىّ بموضع نزولى من محلّة الرّكب، وكانت الترعة (قناة الماء) منه بعيدة، فقال لى: يا سيدى تدعنى أظهر يعنى أخرج، وسألت

<<  <  ج: ص:  >  >>