للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يقول إنه لا يزال يردّد لفظة آه تعبيرا عن وجده الملتاع غير أنها لا تشفيه من كرب الوجد ولوعاته، ولا يزال يعلّل نفسه ويمنيها باللقاء، غير أن التعلات لا تقضى مأربا ولا حاجة وإن القلب لا يزال ظامئا متلهفا إذ لا يسعفه إلا سراب الأمانى الكاذب الخادع، وقد يلوح له أمل، وسرعان ما يتوارى كالبرق يختفى بمجرد ظهوره ولمعانه-إنه يعيش بالأمانى فى اللقاء، فهى حسبه، على أن حبلها لا يمدّ ولا يطول إلا جذّ وانقطع، ولا يزال عقله فى اختلاط، كلما شعر أن أمنيته لن تتحقق، وحتى إن ظن أنها اقتربت لا يزال فى خوف من ابتعادها بل من فقدها فقدا لا أوبة معه. ويستمر ابن معمر فى غزله منشدا:

وا رحمتاه لقلبى كم أجشّمه ... أمرا يذيب من الأصلاد ما صلبا

وكم يعانى ملمّات بأيسرها ... يهوّن الأمر من دنياه ما صعبا

وكم يلجّج فى أفكاره لججا ... سودا تؤجّج فى أحشائه لهبا

وكم تهبّ سموما من تنفّسه ... لو استمرّت لما هبّت نسيم صبا

أستغفر الله لا أشكو الزمان ولا ... أبدى-إذا طرقت أحداثه-رهبا

ولا أئنّ لحظّ منه أعوزنى ... ولا أسرّ إذا ماء المنى انسكبا

أنّى يسرّ لبيب أن رأى حلما ... وكيف يطرب من خمر الفنا شربا

وهو يأسى لقلبه وما يجشّمه من متاعب حبّ تذيب الصخر الصلد الصلب وما يحمله من ملمات يعانى منها أشد العناء، وإن أيسرها ليهوّن أى أمر صعب من دنياه ما ظلت صعوبته راسخة جاثمة فيه، فما بالنا بأثقال تلك الملمات وما تحمل من صعوبات لا تطاق، وما أشقى قلبه بها جميعا وما أعظم عناءه، وكم يخوض هذا القلب من أفكاره لججا شديدة السواد تؤجج نيران وجد فى أحشائه ماتنى تلتهب التهابا، وإنها لتقذف بسموم من تنفسه لو استمرت -كما يزعم-لمنعت نسيم الصبا اللبن من الهبوب. ويعود ابن معمر إلى نفسه، ويستشعر قوة عاتية، ويستغفر الله فإنه لا يشكو الزمان ولا يصيبه جزع من أحداثه، ولا يئن لحظ فاته منه، ولا يحزن لخطوب طرقته ولا يفرح لأمانىّ طوّقته، ويقول كيف يسر لبيب عاقل رأى حلما تراءى له وكيف يطرب لمسرة من مسرات الدنيا من شرب من كأس الفناء وأسكره. وله وقد أبلّ الخليفة الحفصى-ولعله المستنصر-من مرضه.

الله أنعم بعد اليأس بالفرج ... يا أزمة الدّهر عند الشدّة انفرجى

شكر الخلائق لا يكفى لأيسر ما ... كفى وسكّن من هرج ومن رهج (١)


(١) هرج ورهج: شغب واختلاط.

<<  <  ج: ص:  >  >>