للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقافية الشطر الخامس همزية ومثلها جميع الشطور الخامسة فى أدوار المخمّس، وإلى قافية هذا الشطر ينسب المخمّس جميعه. والأدوار العشرة الأولى فى كل مخمس تتخذ الغزل موضوعا لها بينما الأدوار العشرة الثانية فى مديح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كما يقول محقق الديوان الأستاذ الطاهر الزاوى. ونظن ظنا أن وراء الظاهر فى العشرة الأولى نفحات من الغزل الصوفى الحسى الذى نقرؤه فى ديوان ترجمان الأشواق لابن عربى إذ يتشابه معه فى أنه يجمع فى غزله ما يختلج فى قلوب المحبين العذريين إزاء محبوباتهم من لواعج الحب والافتتان بجمالهن وسحر عيونهن وورد خدودهن، ودائما محبوباتهم فى ارتحال وفراق وبين، وهم مسهّدون يبكون بدموع غزار، ولا يبلغ المحب مراده من الوصال، وهو-لذلك موجع الفؤاد، إذ لا شفاء له بلقاء أو ما يشبه اللقاء، بل قطيعة متصلة، والحب-بل العذاب-يتجدد ألوانا. وجميع العشرينيات عند البهلول تبتدئ بهذا الغزل الملتاع، ومما يؤكد تأثره فى غزله بالغزل الصوفى ذكره فى مخمسه الخائى معروفا الكرخى الصوفى وتلميذه السرى السقطى والجنيد تلميذ السرىّ، والثلاثة من صوفية القرن الثالث الهجرى المشهورين، وهو ما يجعلنا نزعم أن شعاعات من الغزل الصوفى الحسى سقطت فى الأدوار العشرة الأولى بمخمّساته من مثل قوله فى مخمّسه السينى:

نفوس عزيزات ترى من أذلّها ... وسفك دماها فى الهوى من أحلّها

وبى غادة كالشمس تمنع وصلها ... سمحت بنفسى فى هواها لعلّها

تدوم على حفظ المودّة والأنس ... تحمّل قلبى فى هواها تحيّة

ولم ترع بالتفريق ودّا وصحبة

أنادى عساها أن تفرّج كربة ... سقتنى كئوسا بالمحبّة صرفة

ثملت بها سكرا وغبت على حسّى

وظاهر الدّور الأول كأنه غزل طبيعى لمحبّ يتذلّل لمن تدلّه فى حبها وأصابته بسهامها حتى كأنما سفكت دمه غير مبالية بحبه، وتمنع وصالها، وتمعن فى هجرانها، وهو لا يزال يأمل أن تراجع نفسها وتذكر له أيام المودة والأنس، وهى معان يقولها الغزلون العذريّون ولكن تأمّل فى الدور الثانى وما ذكر فيه من كئوس المحبة وارتوائه منها صرفة صافية وكأنما ارتوى من كئوس المحبة الربانية التى طالما ردّدها الصوفية، ويقول إن نشوة السكر غلبت عليه حتى غاب عن حسّه، وكأنه يعنى فكرة الفناء الصوفية فى الذات العلية إذ يبلغ الصوفى من محبته لربه غيابه عن حسّه، فقد أصبح روحا فانية فى ربه لا يشعر بشئ فى الوجود سواه وسوى محبته التى استغرقت حواسه حتى كأنما أصبح فى غيبوبة مطلقة. وحقا لا يمعن البهلول فى غزله الحسى الذى يقدم به المديح النبوى كل هذا الإمعان الصوفى، ولذلك نقول إن فى غزله بعض شعاعات من المحبة الصوفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>