للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأدوار العشرة الثانية فى مخمسات البهلول خصّها بمديح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويفيض فى ذكر معجزاته التى تتحدث عنها السيرة النبوية مثل انصداع إيوان كسرى وانطفاء نار فارس عند مولده ومثل شقّ جبريل لصدره ووضعه النور الربّانى فيه بمنازل مرضعته حليمة السعدية، وشكوى الصحابة إليه من قلة الماء فى بئر صغيرة كان يتوضأ منها، ففار الماء وتكاثر ببركته وما قيل من أن الغزالة كلمته وكذلك الذئب والضب، ومعروف أن معجزة الرسول الكبرى إنما هى القرآن الكريم ورسالته العظيمة التى وضعت أسسا قويمة لهداية البشرية. ويذكر البهلول مرارا وتكرارا إسراء الرسول على البراق إلى بيت المقدس وصلاته فيه إماما للرسل، ومعراجه إلى السموات السبع وما غشيه من الأنوار القدسية عند سدرة المنتهى وما ينى يتحدث عن محبته للرسول مصورا فضائله وشمائله المثالية السامية، ضارعا إليه دائما أن يكون شفيعه يوم المحشر، وتتراءى فى جوانب من مديحه النبوى شعاعات من فكرة الحقيقة المحمدية التى تغنى بها الحلاج والبوصيرى لما جاء فى الأثر من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» وكأن حقيقته أقدم من حقيقة آدم وخلقه، وكأنه المبدأ لكل النبوات والرسالات، وفى ذلك يقول البهلول فى مخمّسة الخائى:

سما مجده بين الأنام وفخره ... وقد جلّ من بين البريّة قدره

له المنصب الأعلى لقد تمّ نصره ... ختام وإن كان المقدّم ذكره

أخير وإن كان المبدأ فى النّسخ

فالرسول صلّى الله عليه وسلّم-مع تأخره فى الرسالة-متقدم فى الرتبة على جميع الرسل والأنبياء، بل إنه المبدأ لهم جميعا، فمن رسالته استمدّت جميع الرسالات، وكأنما نسختها منذ الأزل، بل إن الوجود جميعه ليستمد منه، إذ هو نور الله، وكل نور فى الوجود يستمد من نوره، يقول:

نبىّ تسامى فى الأنام بمجده ... لقد ضاءت الآفاق من نور سعده

وما ذكاء أو الشمس فى أضوائها الزاهية إلا فيض من نور وجهه وطلعته السنية، يقول:

له الشرف العالى بفخر وسؤدد ... ذكاء بدت من نور وجه محمد

فالرسول صلّى الله عليه وسلّم منشأ النور فى الوجود وإن نور وجهه ليشاهد فى كل نور: فى الشمس وغير الشمس، إذ هو الحقيقة الأزلية أو النور الأزلى الذى يضيئ الكون والآفاق منذ الأزل أضواء نيّرة غامرة.

وأدوار المخمسات فى ديوان البهلول تفيض بالسلاسة والعذوبة دون أى غرابة فى كلمة أو صيغة، مما جعل أهل ليبيا-فضلا عن أهل طرابلس-يشغفون بالديوان ومخمساته لما يشيع فيه من السهولة والوضوح والصفاء الموسيقى، واعتادوا أن يقيموا لإنشاده حفلات تبدأ من

<<  <  ج: ص:  >  >>