النهوض بالبلاد نهضة حضارية قوية. وقد ساس إبراهيم إفريقية سياسة رشيدة، وصمم على أن تكون له قوة عسكرية تحميه هو وأسرته ممن كانوا لا يزالون بالقيروان من الخراسانيين وغيرهم من الجند، وكوّنها من ثلاثة عناصر: البربر المستعربة والصقالبة الذين كان يجلبهم تجار الرقيق وزنوج السودان الذين كانت تجلبهم القوافل. وابتنى له ولأهل بيته ضاحية على بعد نحو أربعة كيلومترات من القيروان، سماها «العباسية» ونقل إليها معسكرات جنده وخزائن السلاح والأموال كما نقل إليها حواشيه واتخذها دار إمارته. وظل يدير دفّة هذه الدولة إدارة حازمة ويؤسس بنيانها الشامخ طوال اثنى عشر عاما إلى أن توفى سنة ١٩٦ هـ/٨١١ م ويخلفه ابنه أبو العباس عبد الله، ولم يكن سيوسا ويتوفى سنة ٢٠١ هـ/٨١٦ م فيخلفه أخوه زيادة الله، وكان من أعلم أهل بيته فصيح اللسان بصيرا بشئون الإدارة والحكم، فثبّت سلطان أسرته، وتغلب دائما على خصومه، وشجّع العلم والعلماء. ومرّ بنا أن ولاة إفريقية حاولوا غزو صقلية مرارا، وكان زيادة الله عظيم الهمة، فأخذ يعد العدّة لفتحها، بادئا ببناء سور حصين حول ثغر سوسة، وبنى بجوارها رباطا لحمايتها وحماية الساحل واتخذها مرساة لأسطوله، وبنى له فيها دار صناعة كبيرة، وأخذ يكثر من قطعه وسفنه، حتى أصبح أقوى أسطول حربى فى البحر المتوسط، ويغزو به سردانية سنة ٢٠٦ هـ/٨٢١ م ويعود محمّلا بالغنائم. ويرسل إلى صقلية سنة ٢١٢ هـ/٨٢٧ م جيشا بقيادة الفقيه أسد بن الفرات قاضى القيروان لفتحها، ونزل الجيش بمدينة مازر، والتقى بجموع الصقليين وهزمهم، وأخذ يستولى على حصون ومدن متعددة، وفى حصار سرقوسة شرقى صقلية توفى القائد العظيم أسد بن الفرات، ومضى الجيش فى فتوحه.
وهو حدث من أعظم الأحداث فى تاريخ الأمة العربية، ولزيادة الله وقائده ابن الفرات مجده وشرفه. ويدل أكبر الدلالة على قوة هذا الأسطول الأغلبى الفاتح لصقلية أن نجد أهل مدينة نابولى فى إيطاليا يستنجدون بزيادة الله ضد أعدائهم المجاورين لهم من الفرنج سنة ٢٢٢ هـ/٨٣٦ م وينجدهم الأسطول وتظل نابولى بأيدى جنوده وبحارته زمنا غير قليل. وجدّد زيادة الله بناء جامع عقبة فى القيروان ولبّى نداء ربه سنة ٢٢٣ هـ/٨٣٧ م وخلفه أخوه الأغلب، وفى عهده فتح الجيش أكثر ما بقى من صقلية سنة ٢٢٤ هـ/٨٣٨ م وتمكن الأسطول من الاستيلاء على مدينة بارى شرقى إيطاليا سنة ٢٢٥ هـ/٨٣٩ م واتخذها قاعدة حربية ومرساة لسفنه فى البحر الإدرياتى، ويتوفى سنة ٢٢٦ هـ/٨٤٠ م ويتولى مقاليد الحكم أخوه أبو العباس محمد، وفى أيامه أغارت بغتة سنة ٢٣٠ هـ/٨٤٤ م بعض سفن إيطالية على شواطئ الساحل ونهبت بعض أقوات السكان وأسرت عددا منهم، ساقتهم إلى إيطاليا عبيدا أرقاء وباعتهم فى الأسواق، وغضب الأمير الأغلبى محمد حمية لمواطنيه، فأمر الأسطول بخروج قطع منه لغزو إيطاليا وأرست عند مصب نهر تيبر المنحدر من جهة روما، وانتشر جنودها فى ضواحى روما واقتحموها عنوة واستولوا على بعض ما فى كنيستها الكبرى من تحف، وظلوا يترددون عليها