ولم تعن القيروان بالبلاغة كما عنيت بالنقد، وأكبر نقاد القيروان وبلاغييها المعدودين فى النقاد والبلاغيين الكبار ابن رشيق المتوفى بمازر فى صقلية سنة ٤٥٦ هـ/١٠٦٣ م وله كتاب «قراضة الذهب فى صناعة الأدب» وهو فى السرقات الشعرية، وله كتاب «العمدة فى صناعة الشعر ونقده»، وهو يجمع فيه بين النقد والبلاغة، ويقول فيه القفطى:«اشتمل على ما لم يشتمل عليه تصنيف من نوعه وأحسن فيه غاية الإحسان» وقال القاضى الفاضل: «هو تاج الكتب المصنفة فى هذا النوع» وقال فيه ابن خلدون فى مقدمته: «هو الكتاب الذى انفرد بهذه الصناعة-يريد صناعة الشعر-وإعطائها حقّها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله».
وهى شهادة قيمة. وكل من يقرأ الكتاب يعرف بوضوح أن ابن رشيق وضع بين يديه كل ما أنتج المشرق من مباحث ومؤلفات فى النقد والبلاغة من مثل البيان والتبيين للجاحظ وطبقات فحول الشعراء لابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة والبديع لابن المعتز ونقد الشعر لقدامة ونقد النثر لابن وهب والموازنة للآمدى والصناعتين لأبى هلال العسكرى وكتابات الحاتمى فى البديع والبلاغة وأضاف إلى ذلك كتاب الممتع فى علم الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلى، وسوّى من ذلك كله-وربما اطلع على كتب أخرى-كتابه الذى ذاع وشاع فى العالم العربى غربا وشرقا منذ تأليفه إلى اليوم لدقة منهجة وحسن تبويبه وترتيبه، ولما يحمل من مواد طريفة تحيط بالشعر وصنعه ونقده وفنون بلاغته، وقد بدأه بالدفاع عن الشعر والشعراء واضعا الشعر فى مرتبة بلاغية أعلى من مرتبة النثر، ويفرد بابا لبلاغة اللفظ والمعنى قائلا إنهما متلازمان، فاللفظ جسم وروحه المعنى، ويقول إن للشعر لغة خاصة به، ويعرض للمكثرين والمقلين من الشعراء وللمطبوعين والمتكلفين ولأصحاب مدرسة البديع وللوزن والقافية وعمل الشعر وشحذ القريحة له ولافتتاح الشعراء قصائدهم بالنسيب وللمبدإ والخروج من فاتحة القصيدة إلى موضوعها وللمخترع فى الشعر والبديع، ويفصّل القول فى الاستعارة والتشبيه أهم ألوان البيان ويفيض إفاضة واسعة فى ذكر ألوان البديع ومحسناته متأثرا بأبى هلال العسكرى فى كتابه الصناعتين والحاتمى فى كتابه حلية المحاضرة، وقد اعتمد على الكتاب الأخير اعتمادا واسعا فى حديثه عن ألوان البديع وفنونه من مثل الجناس والطباق والمقابلة والتتميم والتسهيم والترصيع وصحة التقسيم إلى غير ذلك من محسنات كثيرة. وكأن القيروانيين لم يجدوا حاجة إلى التأليف فى البلاغة وفنون البديع بعده، وبالمثل فى نقد الشعر وصناعته، وقد تحدث حديثا مستفيضا عن موضوعات الشعر بادئا بالنسيب ومفصلا القول فى كل موضوع تفصيلا دقيقا، وتحدث عن السرقات الشعرية، واتفق مع النقاد فى أن السرقة إنما هى فى البديع المخترع الذى يختص به شاعر ويسرقه أحد الشعراء، لا فى المعانى المشتركة بين الشعراء، ويذكر ما يحتاج إليه الشاعر من المعارف والثقافة. والكتاب غنى بالأفكار والآراء النقدية، ومثله فى هذا الغنى كتابه:
«أنموذج الزمان فى شعراء القيروان» وقد جمعه من بطون المخطوطات وغيرها من الكتب وحققه