من قصصه الطريفة التى صاغها محاكاة لقصص كليلة ودمنة، والتى لا يوجد منها الآن فى المشرق شئ. وقد ولد بقرية تسمى الحصر بجوار القيروان فنسب إليها، وهو أستاذ علمين من أعلام الأدب فى القيروان: ابن رشيق وابن شرف، وكان ودودا ومألفا لشباب القيروان ومتأدبيها، فكانوا يجتمعون عنده ويأخذون عنه كما قال ابن رشيق وقال عنه أيضا: إنه كان شاعرا ناقدا عالما بتنزيل الكلام، وقد افتتح به كتابه الأنموذج فى شعراء القيروان، وذكره مرارا فى كتابه العمدة، واستشهد فيه ببعض أشعاره. وكان بحق-كما قال ابن رشيق-ناقدا ذواقة للأدب، فجمع-وخاصة فى زهر الآداب-فرائد بديعة من شعر المحدثين ونثرهم وأخبارهم، وكأنه أراد بذلك أن يكمل كتاب البيان والتبيين للجاحظ، إذ رآه يشغله بكلام الإسلاميين والجاهليين، ولا يعنى بالعباسيين العناية الكافية فرأى أن يكمل مختاراته الجاهلية والإسلامية بمختاراته الشعرية والنثرية للعباسيين، ولاحظ ذلك ابن بسام فى ترجمته بالقسم الرابع من كتابه الذخيرة.
فقال: «عارض الحصرى أبا بحر الجاحظ بكتابه الذى وسمه بزهر الآداب فلعمرى ما قصر عن مداه ولا قصرت خطاه، ولولا أنه شغل أكثر أجزائه وأنحائه بكلام أهل العصر (يريد العباسيين) دون كلام العرب لكان كتاب الأدب، لا ينازعه ذلك إلا من ضيّق عينيه الرمد، وأعمى بصيرته الحسد». وهى شهادة قيمة بروعة الكتاب وروعة ما يحمل من النصوص العباسية شعرا ونثرا. وربما كانت أهم مجموعة أدبية بعده فى القطر التونسى مجموعة الحماسة لأبى الحجاج يوسف بن محمد البيّاسى الأندلسى نزيل تونس المتوفى سنة ٦٥٣ هـ/١٢٥٦ م وقد كتبها بتونس سنة ٦٤٦ هـ/١٢٤٨ م وقرأها الطلاب عليه، ومنها مخطوطة فى دار الكتب المصرية.
وحاول ابن شرف القيروانى الشاعر المتوفى سنة ٤٦٠ هـ/١٠٦٧ م بالأندلس أن يكون له نصيب فى عالم النقد، فكتب مبحثا يسمى تارة أعلام الكلام، وتارة رسائل الانتقاد، وطبع بالعنوانين، تناول فيه الشعر والشعراء منذ الجاهلية إلى زمنه، وهو ملاحظات مجملة أكثر منه آراء نقدية، أو هو انطباعات عن الشعراء فى جمل مسجوعة، وكأنه يؤلّف مقامة-لا مبحثا نقديا- عن الشعراء، ومن قوله عن أبى نواس:«أول الناس فى خرم القياس. وذلك أنه ترك السيرة الأولى وتنكّب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا صادف الأفهام قد كلّت. . فتهادى الناس شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وكلفوا بأضعفه» ويقول عن ابن الرومى: «شجرة الاختراع، وثمرة الابتداع، وله فى الهجاء ما ليس له من الاطراء، فتح فيه أبوابا، وخلع منه أثوابا، وطوق فيه رقابا، يطول عليها حسابه، ويمحق فيها ثوابه» وكأنه يقيس هجاءه بمقياس خلقى لا بمقياس فنى، ويقول فى المتنبى: «شغلت به الألسن، وسهرت فى أشعاره العيون الأعين، وكثر الغائص فى بحره، والمفتش فى قعره عن جمانه (لؤلئه) ودرّه، وله شيعة تغلو فى مدحه، وعليه خوارج تتعاون فى جرحه»، وهكذا آراؤه فى الشعر انطباعات لا تحمل تعليلا ولا دليلا.